الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يُرِيدُونَ أَن يُطۡفِـُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (32)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر عنهم، فقال: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم}، يعنى دين الإسلام بألسنتهم بالكتمان، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} يعنى يظهر دينه الإسلام، {ولو كره الكافرون} أهل الكتاب.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا "أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بأفْوَاهِهِمْ "يعني: أنهم يحاولون بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعث به رسوله وصدّهم الناس عنه بألسنتهم أن يبطلوه، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياء. "ويَأبَى اللّهُ إلاّ أنْ يُتِمّ نُورَهُ" يعلو دينه وتظهر كلمته، ويتمّ الحقّ الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ولو كره إتمام الله إياه الكافرون، يعني: جاحديه المكذّبين به.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) يحتمل وجهين: (يُرِيدُونَ أَنْ) يجتهدون أن يطفئوه، فما يقدرون على إطفائه. ويحتمل (يريدون أن) أي يحتالون أن يطفئوه بأسباب يتكلفون، ويحتالون. وقوله تعالى: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بالحجج والبراهين أي بالنشر والإظهار، وقد أتمه كقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3].

وقوله تعالى (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) وقد كره الكافرون.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} وليس يريد تمامه من نقصان لأن نوره لم يزل تاماً. ويحتمل المراد به وجهين: أحدهما: إظهار دلائله. والثاني: معونة أنصاره.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ولما سمى الله تعالى الحجج والبراهين نورا سمى معارضتهم له إطفاء. وأضاف ذلك إلى الأفواه، لأن الإطفاء يكون بالأفواه، وهو النفخ، وهذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم وتضعيف كيدهم، لأن النفخ يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة.

وقوله "ويأبي الله الا ان يتم نوره "الإباء: الامتناع مما طلب من المعنى، والتقدير في الآية ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة. ليطفئه بنفخة ويطمسه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله {بأفواههم} عبارة عن قلة حيلتهم وضعفها، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومة أمر جسيم بسعي ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه، ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها فهي لا تجاوز الأفواه إلى فهم سامع...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه، والمراد من النور: الدلائل الدالة على صحة نبوته...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يريدون أن يطفئوا} أي بما مضى ذكره من أحوالهم {نور الله} أي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى، وشرعه الذي شرعه لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية، فإن اتباع الرسل حاسم للشهوات، وهم أبعد الناس عن ذلك. {ويأبى} أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضى {الله} أي الذي له جميع العظمة والعز ونفوذ الكلمة {إلا أن يتم نوره} أي لا يقتصر على مجرد إشراقه، بل وعد -وقوله الحق- بأنه لا بد من إكماله وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه. {ولو كره الكافرون} أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم وصفهم الله تعالى بوصف ثالث في تفصيل حال كفرهم المجمل المتقدم بعد وصفهم باتخاذ ابن الله ورؤسائهم أرباباً من دون الله، وهو: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهداية دينه الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى وغيرهما من رسله، ثم أتمه وأكمله ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، بالطعن في الإسلام والصد عنه بالباطل، كما فعلوا من قبل بمثل تلك الأقوال في عزير والمسيح، التي لم تتجاوز أفواههم إلى معنى صحيح، وبما ابتدعه الرؤساء لهم من التشريع، حتى صار التوحيد الذي أمروا به عندهم شركا، والعبد المربوب رباً، والعابد المألوه إلهاً، على تفاوت بين فرقهم في ذلك، كما تقدم شرحه في تفسير الآيتين اللتين قبل هذه الآية.

والإرادة في الأصل: القصد إلى الشيء، وقد تطلق على ما يفضي إليه وإن لم يتصوره فاعله. يقال في الرجل المسرف المبذر: يريد أن يخرب بيته. أو: أن يترك أولاده فقراء، أي أن تبذيره يفضي إلى ذلك فكأنه يقصده؛ لأن فعله فعل من يقصد ذلك. وأهل الكتاب الذين عادوا الإسلام منذ البعثة المحمدية كانوا يقصدون إبطاله والقضاء عليه بالحرب والقتال من جهة، وبإفساد العقائد والطعن من جهة أخرى كما يأتي قريباً، وكل من الأمرين يصح التعبير عنه بإرادة إطفاء النور لأنه تمثيل لحالهم معه. وأما ما كان من إفسادهم في دينهم فمنه ما كان بقصد من المنافقين والمبتدعين فيه، ولا سيما الروم الذين اتخذوا النصرانية عصبية سياسية منذ عهد قسطنطين، ومنه ما كان بغير قصد إلى إطفاء نوره، بل كان بعضه بقصد خدمته، (كما فعل بعض مبتدعة المسلمين الذين اتبعوا سننهم من حيث لا يشعرون بوضع الأحاديث، والعبادات المبتدعة، ونشر الخرافات) وهو ما بيناه مراراً في مواضع آخرها وأقربها ما قلناه آنفا في هذا السياق.

قال السدي: المراد بالنور هنا الإسلام، وقال الضحاك: هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: هو القرآن. وقال بعض المفسرين: المراد بالنور الدلائل على التوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنها يهتدى بها إلى الحق في العقليات، كما يهتدى بالنور في رؤية الحسيات؟ وأقول: إن المعنى الجامع بين النور الحسي والنور المعنوي هو أنه الشيء الظاهر في نفسه المظهر لغيره، ولك أن تقول: إن النور المعنوي للبصيرة كالنور الحسي للبصر. وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [المائدة: 16 17] إن في هذا النور الأقوال الثلاثة التي ذكرناها آنفا، وبينا وجه كل منها، واخترنا الثالث منها، وهو القرآن، لموافقته لقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} [النساء:172]، وقوله تعالى في رسوله الأعظم: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف:151]، وقوله: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} [التغابن: 8]، وأما التوراة والإنجيل فقد قال الله تعالى في كل منهما إن فيه نورا هدى (5: 47 و49)، ولم يجعله عين النور كالقرآن. ونختار هنا القول الأول وهو دين الإسلام بالمعنى العام الشامل لكل ما جاء به رسل الله، ولا سيما دين التوراة والإنجيل والقرآن. وقد كان كل منها نورا لأهله في الزمن الذي نزل به بقدر حاجتهم، حتى إذا نزل القرآن كان هو النور الأعظم الكافي لهداية جميع البشر إلى آخر الزمان، ولله در البوصيري حيث قال في لاميته بعد ذكر تلك الكتب:

الله أكبر إن ديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن محمد وكتابه أقوى وأقوم قيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده طلع الصباح فأطفئ القنديلا

نعم إن القوم قد أطفأوا جل ذلك النور، فزجوا بأنفسهم في ظلمات لا يلوح لهم فيها إلا وميض ضئيل منه، وهم يريدون إطفاء الآخر الأخير أيضا. والنور الحسي قد يطفأ بنفخ الفم كسرج الزيت القديمة وإطفاؤه إزالته، وإطفاء النار إزالة لهبها واتقاد جمرها معاً، فهو أبلغ من إخمادها؛ لأن الإخماد إزالة اللهب فقط. وإذا كان إطفاء السراج سهلا فإطفاء نور الشمس غير ممكن.

وإنما اخترت هنا أن المراد بالنور دين الله الذي بعث به رسله في كل قوم بما يناسب حالهم في زمنهم؛ لأنه هو الذي يقبل التمام المراد بقوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} الذي أضافه إلى اسمه ببعثة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين، مبيناً لهم كل ما يحتاجونه من أمر الدين، من عقائد يؤيدها البرهان، ويطمئن لها الوجدان، وتبطل بها عبادة الإنسان للإنسان، فضلاً عن الأصنام والأوثان. وعبادات تتزكى بها النفس، وتطهر من كل رجس، وتجعل كفاية الأغنياء للفقراء حقوقا إلهية، تكفلها العقائد الوجدانية، ويبطل ثوابها المن والأذى، وآداب تطبع في الأنفس ملكات الفضائل، وتتوثق بها عرى المصالح، وتشريع سياسي وقضائي يجمع بين العدل والرحمة، ويجعل السلطان الحكمي للأمة، ويقرر المساواة بين جميع الناس في الحق، مع تعظيم شأن العلم والعقل، واحترام حرية الإرادة والرأي والوجدان، ومنع الإكراه على الأديان، والتوحيد المصلح للاجتماع البشري في العقائد والتعبد والتشريع واللغة، لإزالة التعادي بين الشعوب والقبائل، فمن لم يقبلها كلها كان تشريع المساواة بالعدل كافياً لحفظ حقوقه فيها.

أتم الله تعالى ذلك كله على لسان خاتم النبيين، الذي حفظها إلى آخر الزمان، ولم يكفل ذلك لكتاب آخر؛ لأن سائر الكتب كانت أدياناً خاصة موقتة، وأنزل عليه بعد أن أتم الدعوة، وأقام الحجة، وأوضح المحجة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 9].

وجملة المعنى في هذا التركيب أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده، وإنما قطبه الذي تدور عليه جميع عباداته توحيد الربوبية والألوهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله تعالى لا يريد ذلك، لا يريد في هذا الشأن إلا أن يتم هذا النور الذي بدا في الأجيال السابقة كالسراج على منارته، أو كنور الهلال في بزوغه، فالقمر في منازله، فيجعله بدرا كاملاً، بل شمساً ضاحية، يعم نوره الأرض كلها، وما يريده الله كائن لا مرد له.

{ولو كره الكافرون} ذلك بعد إتمامه، كما كانوا يكرهونه من قبل عند بدء ظهوره، وجواب لو محذوف للعلم به مما قبله كما يقول النحاة. فهم يكيدون له، ويفترون عليه ويطعنون فيه، وفيمن جاء به. ويحاولون إخفاءه، أو «خنق دعوته، وحصد نبتته»، كما قال شيخنا رحمه الله. فأما اليهود فكان من أمرهم في مقاومة دعوته، ومساعدة المشركين عابدي الأصنام في قتال أهله، ومن خذلان الله تعالى إياهم، ونصر رسوله والمؤمنين عليهم، ما بيناه في تفسير سورة الأنفال، فكانوا في أول الإسلام أشد الناس عداوة لأهله كمشركي العرب سواء، ولما عجزوا عن إطفاء نوره بمساعدة المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم قصدوا إطفاء نوره ببث البدع فيه، وتفريق كلمة أهله بما فعل عبد الله بن سبأ من ابتداع التشيع لعلي كرم الله وجهه، والغلو فيه، وإلقاء الشقاق بين المسلمين في مسألة الخلافة، وكان لشيعته من الدسائس في قتل عثمان رضي الله عنه، ثم في الفتنة بين علي ومعاوية أقبح التأثير، ولولاهم لما قتل أولئك الألوف الكثيرون من صناديد المسلمين، فإن السعي إلى الصلح والاتفاق نجح غير مرة فأفسدوه بدسائسهم، ثم كان لليهود الذين أظهروا الإسلام والقيام بفرائضه نفاقاً مكيدة أخرى لا تزال مفاسدها مبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ وهي الإسرائيليات التي بينا بعضها في مواضع من هذا التفسير، ولا نزال نبين ما يعرض لنا فيه وفي المنار.

وأما النصارى فقد كان الحبشة منهم أول من أظهر المودة لهم، وأكرم ملكهم النجاشي من لجأ إليه من مهاجريهم، ومنعهم من تعدي المشركين عليهم، بل أسلم هو على أيديهم، كما تقدم بيانه في تفسير {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82]، ثم انقلب الأمر وانعكست القضية بعد انتشار الإسلام وراء جزيرة العرب، فكان اليهود يتوددون للمسلمين لأنهم أنقذوهم من ظلم النصارى واستبدادهم، وصار نصارى أوروبا المستعمرون للممالك الشرقية هم الذين يقاتلون المسلمين ويعادونهم، دون نصارى هذه البلاد ولا سيما سورية ومصر الأصليين، فإنهم رأوا من عدل المسلمين وفضائلهم ما فضلوهم به على الروم الذين كانوا يظلمونهم ويحتقرونهم، حتى آل الأمر إلى ما بيناه في تفسير الآية السابقة من الحروب الصليبية، وغلو نصارى أوروبا في عداوة المسلمين، وما بيناه قبلها في تفسير قتال أهل الكتاب من حال مسلمي هذا العصر مع دول أوروبا المستولية على أكثر بلادهم، المهددة لهم فيما بقي لهم من مهد دينهم ومشاعره وحرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد بين الله هذا المعنى في سورة الصف بمثل هذه الآية، إلا أنه قال هنالك: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره} [الصف: 8] وباقي الآية ونص الآية بعدها كآيتي براءة سواء. فأما قوله {ليطفئوا} فمن علماء العربية من يقول: إنه بمعنى "أن يطفئوا "لأن اللام فيه مصدرية أو بمعنى المصدرية، ومنهم من يقول: إنها للتعليل، والمعلل محذوف للعلم به من القرينة وهو التحقيق، وبيانه أنه قبل هذه الآية ذكر بشارة عيسى عليه السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتكذيب اليهود له في رسالته وبشارته، وقال بعدها: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين} [الصف:7]، فالمعنى على التعليل أن هؤلاء الضالين الظالمين لأنفسهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرهم به عيسى عليه السلام -سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم- بعد بعثته ودعوته إياهم إلى الإسلام وظهور نوره بالحجج الساطعة الدالة على صدقه يريدون افتراء الكذب بإنكار تلك البشارات، وتأويلها بما يصرفها عن وجهها؛ لأجل أن يطفئوا نور الله تعالى، بافترائهم الذي يخرج من أفواههم ظناً منهم أن الافتراء بإنكارها وتأويلها وبالطعن في محمد صلى الله عليه وسلم يطفئ هذا النور، ثم قال {والله متم نوره} أي والحال أن الله تعالى متم نوره بالفعل فلا يطفئه الافتراء، بل هو كمن ينفخ في نور قوي ليطفئه فيزيده بذلك اشتعالاً، أو كمن يحاول إطفاء نور الشمس فلا ينال منها منالاً. فالفرق بين الآيتين أن آية سورة الصف تعليل لافترائهم بإرادتهم إطفاء النور به، وآية براءة لما جاءت بعد بيان شركهم بمضاهأتهم لأقوال الوثنيين من قبلهم جعل ذلك نفسه بمعنى إرادة إطفاء النور بلا واسطة.

ثم إن بينهما فرقا آخر وهو التعبير في آية سورة الصف بقوله: {والله متم نوره} وفي سورة براءة بقوله: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره}، والأول يفيد أنه متمه بالفعل في الحال، والثاني وعد بأن يتمه في الاستقبال، فيجتمع منهما إثبات هذا الإتمام في الحال والاستقبال، فهو النور التام الكامل الذي لا ينطفئ بالقيل والقال، بل يبقى مشرقاً إلى أن يأذن الله لهذا العالم بالزوال، ولما كان هذا الوعد الذي يتعلق بالمستقبل المغيب عن علم الخلق من شأنه أن يرتاب فيه الناس، أكده الله تعالى بما لم يؤكد به الخبر الأول؛ لأن صدقه مشاهد لا يحتاج إلى التأكيد، وناهيك بقوله: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} أي أنه لا يرضى ولا تتعلق إرادته بشيء في هذا الشأن إلا شيئا واحدا وهو أن يتم نوره فلا يجعل في قدرة أحد أن يطفئه.

والآية تشعر بأن هؤلاء الكافرين الكارهين له سيحاولون في المستقبل إطفاء هذا النور، كما حاولوا ذلك في عصر من أتمه وأكمله بوحيه إليه وبيانه له. وهذا ما وقع من قبل، وأشرنا إليه في هذا السياق، وأفظعه الحروب الصليبية ومقدماتها. وما هو واقع الآن، فإن دعاة النصرانية (المبشرون) من الإفرنج يغلون في الطعن على الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم في كل بلد لدولهم فيه حكم أو نفوذ أو امتياز، كمصر والهند وغيرهما، ولولا شدة غلوهم ووقاحتهم في الافتراء والبهتان لما أطلنا في هذا السياق بما أطلنا به من بيان حالهم في دينهم وكتبهم. وهذا ما يتوقع في الأزمنة الآتية، وقد صدق الله وعده {ومن أصدق من الله حديثا} [النساء: 87].

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ونور اللّه: دينه الذي أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، وسماه اللّه نورا، لأنه يستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة، فإنه علم بالحق، وعمل بالحق، وما عداه فإنه بضده، فهؤلاء اليهود والنصارى ومن ضاهوه من المشركين، يريدون أن يطفئوا نور اللّه بمجرد أقوالهم، التي ليس عليها دليل أصلا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فهم محاربون لنور اللّه. سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن؛ أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سداً في وجهه -كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ. وهذا التقرير- وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذ ذاك -هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور اللّه المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور اللّه. (ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).. وهو الوعد الحق من اللّه، الدال على سنته التي لا تتبدل، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون.. وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا؛ فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق؛ وعلى الكيد والحرب من الكافرين [والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم].. كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... والنور: الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى: {نوراً وهدى للناس} في سورة الأنعام (91). والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف، والتحريض على المقاومة. والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه...

... وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم.

والإباء والإباية: الامتناع من الفعل، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعلٍ وهو يمتنع منه، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى، فكان حالهم، في نفس الأمر، كحال من يحاول من غيره فعلاً وهو يأبى أن يفعله.

والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة، كأنّه قال: ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره، ذَلك أنّ فعل (أبَى) ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله}. فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه. وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل « كَرِهْت إلاّ أخَاك».

وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم، ولم يُجأْ به في سورة الصف (8) إذ قال: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره} لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق.

.. و {لو} في {ولو كره الكافرون} اتّصالية، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفياً. والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله. وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها، والكافرون هم اليهود والنصارى.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

ثم قال تعالى فيما وصل إليهم الأحبار والرهبان من مفاسد بعد أن أباحوا لأنفسهم أن يحلوا ما شاءوا وأن يحرموا ما شاء بلا رقيب ولا حسيب، فقال سبحانه وتعالى في أعمالهم التي يريدون بها إطفاء نور الحق:

"يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)" .

إن المشركين واليهود والنصارى بالتمويهات الباطلة التي لا تدركها العقول المستقيمة، وهم ينطقونها بأفواههم ولا تتصورها عقولهم؛ لأنها غير قابلة للتصور، هؤلاء يريدون أن يطفئوا نور الله، وهو الحقائق الثابتة الدالة على أن الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن، والحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزة الكبرى وهي القرآن الكريم، والهدى العظيم، يريدون بهذه الأوهام أن يطفئوا ذلك النور.

وقد شبه الله تعالى محاولاتهم وتضليلهم بحال من يحاول إطفاء الشمس في علاها، والقمر في بزوغه، فمن يحاول طمس الحقائق الظاهرة ضال مبطل في محاولاته كمن يحاول إطفاء الشمس.

وأضاف النور إلى الله تعالى تشريفا لهذه الحقائق، وتنويها بشأنها؛ لأنها مضافة إلى العلي القدير، نور الوجود، كما قال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)} (النور).

أولئك من مشركين وكتابيين يريدون إطفاء نور الله، فهم يعاندون الله، والله تعالى غالب عليهم، ولذا قال تعالى: {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا}، في مقابلة {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، هم يريدون والله تعالى يأبى عليهم، ويأبى عليهم كل أهوائهم، وعلى ذلك فمعنى (يأبى) لا يريد الله، والاستثناء حينئذ مفرغ، والاستثناء المفرغ لا يكون إلا في حال النفي، مثل لا يقوم إلا أحمد، ولا يهدي إلا محمد، ولا معجز إلا القرآن.

فكيف يكون قوله تعالى: {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} استثناء مفرغا، ونقول إن (يأبى) متضمنة معنى (لا يريد)، في مقابل {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، فهم يريدون الإطفاء والله لا يريد إلا أن يتمك نوره، ويعم الوجود الإنساني، وإرادة الله هي النافذة، لأن إرادتهم ظلمة، والنور كاشف الظلمة، {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} لأن ستر الحقائق والتمويه والتضليل لا يدوم مهما بطل الزمان.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ملاحظات

شُبِّه الدين دين الله في هذه الآية وفي القرآنُ وتعاليم الإسلام بالنور، ونحن نعرف أن النّور أساس الحياة والحركة والنمو والعمران على الأرض ومنشأ كل جمال.

والإِسلام دين يحرّك كل مجتمع إِنساني نحو التكامل، وهو أساس كل خير وبركة.

كما شُبّه اجتهاد الكافر بالنفخ بالأفواه وكم هو مثير للضحك أن يحاول الإِنسان إطفاء نور عظيم كنور الشمس بنفخة؟ ولا تعبير أبلغ من تعبير القرآن لتجسيد هذه المحاولات اليائسة، وفي الواقع فإنّ محاولات مخلوق ضعيف إِزاء قدرة الله التي لا نهاية لها، لا تكون أحسن حالا ممّا ذكرته الآية.

ورد موضوع محاولة إطفاء نورى الله في القرآن في موردين: أحدهما في الآية محل البحث، والآخر في الآية (8) من سورة الصف، وفي الآيتين انتقاد للكفار ومحاولات أعداء الله اليائسة، إلاّ أن بين تعبيري الآيتين تفاوتاً يسيراً، إِذ جاء التعبير في الآية محل البحث (يريدون أن يطفئوا) إلاّ أن الآية (8) من سورة الصف جاء فيها التعبير (يريدون ليطفئوا).

وممّا لا شك فيه أن هذا التفاوت أو الاختلاف اليسير في التعبير القرآني لغاية بلاغية.

يقول الراغب في مفرداته موضحاً الفرق بين (أن يطفئوا) و (ليطفئوا): إِنّ الآية الأُولى تشير إِلى محاولة إطفاء نور الله بدون مقدمات، أمّا الآية الأُخرى فتشير إِلى محاولة إطفائه بالتوسل بالأسباب والمقدمات، فالقرآن يريد أن يقول: سواء توسّلوا بالأسباب أم لم يتوسلوا فلن يفلحوا أبداً، وعاقبتهم الهزيمة والخسران.

كلمة «يأبى» مأخوذة من الإِباء، ومعناه شدة الامتناع وعدم المطاوعة، وهذا التعبير يثبت إِرادة الله ومشيئته الحتمية لإِكمال دينه وازدهاره كما أنّ التعبير مدعاة لاطمئنان جميع المسلمين، إن كانوا مسلمين حقّاً! أنّ مستقبل دينهم لا بأس عليه، بل هو مؤيد بأمر الله.