تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{انفروا} إلى غزاة تبوك {خفافا وثقالا}، يعنى نشاطا وغير نشاط، {وجاهدوا} العدو {بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله}، يعني الجهاد، {ذلكم خير لكم} من القعود، {إن كنتم تعلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واختلف أهل التأويل في معنى الخفة والثّقل اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنّفر معه؛ فقال بعضهم: معنى الخفة التي عناها الله في هذا الموضع: الشباب، ومعنى الثقل: الشيخوخة...
عن أبي طلحة:"انْفِرُوا خِفافا وَثِقالاً" قال: كهولاً وشبانا، ما أسمع الله عذرَ أحدا فخرج إلى الشام فجاهد حتى مات...
وقال آخرون: معنى ذلك مشاغيل وغير مشاغيل...
وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء... وقال آخرون: معناه: نِشَاطا وغير نِشاط... وقال آخرون: معناه: ركبانا ومشاة... وقال آخرون: معنى ذلك: ذَا ضَيْعة، وغير ذي ضيعة... وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالاً وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب. ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن معمر من المال ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب، والشيخ وذو السنّ والعيال. فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نصب على خصوصه دليلاً، وجب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل...
"وجَاهَدُوا بأمْوَالِكمْ وأنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تعْلَمُونَ".
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاهدوا أيها المؤمنون الكفار بأموالكم، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعا أو كرها، أو يعطوكم الجزية عن يد صغارا إن كانوا أهل كتاب، أو تقتلوهم "وأنْفُسِكُمْ "يقول: وبأنفسكم فقاتلوهم بأيديكم يخزهم الله وينصركم عليهم. "ذلكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ" يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافا وثقالاً وجهاد أعدائه بأموالكم وأنفسكم خير لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم والخلود إليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عوضا من الاَخرة، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا)... مستخفين ومستثقلين؛ أي أنفروا خف عليكم الخروج أو ثقل...
وقوله تعالى: (ذلكم خير لكم) في الدنيا والآخرة. أي اعلموا أن ذلك خير لكم من المقام وترك النفر (إن كنتم تعلمون)...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو، فقال بعض الناس هذا أمر عام لجميع المؤمنون تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة، ثم نسخه الله عز وجل، بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}..
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: اُخْتُلِفَ فِي أحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ نَسْخِهَا قَوْله عَلَى قَوْلَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا نَفِيرُ الْكُلِّ إذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى قُطْرٍ من الْأَقْطَارِ، أَوْ بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ؛ فَيَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْجِهَادُ وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ؛ فَإِنْ قَصَّرُوا عَصَوْا...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى الْحَوْزَةِ، أَوْ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْأُسَارَى كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا، وَوَجَبَ الْخُرُوجُ خِفَافًا وَثِقَالًا، وَرُكْبَانًا وَرِجَالًا، عَبِيدًا وَأَحْرَارًا، مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ من غَيْرِ إذْنِهِ، وَمَنْ لَا أَبَ لَهُ، حَتَّى يَظْهَرَ دينُ اللَّهِ، وَتُحْمَى الْبَيْضَةُ، وَتُحْفَظَ الْحَوْزَةُ، وَيُخْزَى الْعَدُوُّ، وَيُسْتَنْقَذَ الْأَسْرَى. وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا...
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول، وضرب له من الأمثال ما وصفنا، أتبعه بهذا الأمر الجزم؛ فقال: {انفروا خفافا وثقالا} والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة.
فإن قيل: أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين؟
قلنا: ظاهره يقتضي ذلك، عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلي أن أنفر، قال: «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه، فنزل قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج}...
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون: هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواما، وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان، لكنه من فروض الكفايات، فمن أمره الرسول بأن يخرج، لزمه ذلك خفافا وثقالا، ومن أمره بأن يبقى هناك، لزمه أن يبقى ويترك النفر. وعلى هذا التقدير: فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم قال تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وفيه قولان:
القول الأول: أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس، فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد، ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد.
والقول الثاني: أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه، وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه، فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفرا بنفقة من عنده فيكون مجاهدا بماله لما تعذر عليه بنفسه، وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء.
ثم قال تعالى: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهاد خير من القعود عنه، ولا خير في القعود عنه. قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن لفظ {خير} يستعمل في معنيين: أحدهما: بمعنى هذا خير من ذاك.
والثاني: بمعنى أنه في نفسه خير كقوله: {إني لما أنزلت إلي من خير فقير} وقوله: {وإنه لحب الخير لشديد} ويقال: الثريد خير من الله، أي هو خير في نفسه، وقد حصل من الله تعالى، فقوله: {ذلكم خير لكم} المراد هذا الثاني، وعلى هذا الوجه يسقط السؤال. الوجه الثاني: سلمنا أن المراد كونه خيرا من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولذلك قال تعالى: {إن كنتم تعلمون} لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل، ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق، وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبلغاً هيأها به للقبول، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال: {انفروا خفافاً وثقالاً} والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا -...
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار -كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين: قلته، ومحبة الإقامة في الحدائق إيثاراً للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى: {بأموالكم وأنفسكم} أي بهما معاً على ما أمكنكم أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع {ذلكم} أي الأمر العظيم {خير} أي في نفسه حاصل {لكم} أي خاص بكم، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائناً ما كان، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله: هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال: هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله: {إن كنتم تعلمون} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية، فإن العلم- ولا يعد علماً إلا النافع -يحث على العمل وعلى إحسانه بإخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وجه اتصال الآية بما قبلها فهو أنه تعالى لما وبخ الله المؤمنين على التثاقل عن النفر لما استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم قفى عليه ببيان حكم النفير العام الذي يوجب القتال على كل فرد من الأفراد بما استطاع، ولا يعذر فيه أحد بالتخلف عن الإقدام، وترك طاعة الإمام، فقال: {انفروا خفافا وثقالا} الخِفاف (بالكسر) جمع خفيف والثقال جمع ثقيل. والخفة والثقل يكونان بالأجسام وصفاتها من صحة ومرض، ونحافة وسمن، وشباب وكبر، ونشاط وكسل، ويكونان بالأسباب والأحوال، كالقلة والكثرة في المال والعيال، ووجود الظهر [الراحلة] وعدمه، وثبوت الشواغل وانتفائها. فإذا أعلن النفير العام، وجب الامتثال إلا في حال العجز التام، وهو ما بينه تعالى في الآية 91 من هذا السياق: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله...}، وعذر القسم الثالث مشروط بما إذا لم يجد الإمام أو نائبه ما ينفق عليهم كما ذكر في الآية وستأتي.
وما ورد عن مفسري السلف من تفسير الخفاف والثقال ببعض ما ذكرنا من الكليات فهو للتمثيل لا للحصر...
ومما هو نص في إرادة عموم الأحوال قول أبي أيوب الأنصاري وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة- قال الله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً}، فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً. رواه ابن جرير. وروي عن أبي راشد الحراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال أبت علينا سورة البعوث يعني براءة {انفروا خفافاً وثقالاً}. وروي عن حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة، فرأيت شيخاً كبيراً همَّا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فقلت: يا عم قد أعذر الله إليك، قال فرفع حاجبيه عن عينيه فقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من صبر وشكر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
أقول: بمثل هذا الفهم للقرآن والاهتداء به فتح سلفنا البلاد، وسادوا العباد، وكانوا خيرا لهم من أبناء جلدتهم، والمشاركين لهم في ملتهم. ولم يبق لأحد من شعوب أمتنا حظ من القرآن إلا تغني بعضهم بتلاوته من غير فهم ولا تدبر، واشتغال آخرين بإعراب جمله ونكت البلاغة في مفرداته وأساليبه من غير علم ولا فقه فيها، ولا فكر ولا تدبر لما أودع من العظات والعبر في مطاويها، فهم يتشدقون بأن {خفافاً وثقالاً} منصوبان على الحال، ولا يرشدون أنفسهم ولا غيرهم إلى ما أوجباه على ذي الحال. وقد يذكر من يسمى الفقيه فيهم ما قيل من أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفردوا كافة} [التوبة:112]، وهو زعم مخالف لما عليه الأئمة كافة، من أنه لا تعارض بين الآيتين كما سيأتي في تفسير الثانية، وبمثل هذا وذاك أضاع المسلمون ملكهم، وصار أكثرهم عبيداً لأعدائهم. ثم بين تعالى ما يجب من هذا النفر بقوله:
{وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أي وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت من العلو والفساد في الأرض، ببذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله الموصلة إلى الحق وإقامة ميزان العدل. فمن قدر على الجهاد بماله وبنفسه معاً وجب عليه الجهاد بهما، ومن قدر على أحدهما دون الآخر وجب عليه ما كان في قدرته منهما. كان المسلمون في الصدر الأول ينفق كل على نفسه في القتال، ومن كان عنده فضل من المال بذل منه في تجهيز غيره كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في هذه الغزوة، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا يفعل أهل نجد الآن.
ولما صار بيت المال غنياً بكثرة الغنائم صار الأئمة والسلاطين يجهزون الجيش من بيت المال، وأئمة اليمن يدخرون المال لأجل القتال، وينفقون على طائفة من الناس طول السنة لتكون مستعدة للقتال كلما استنفرت له. والدول المنظمة تقرر في كل عام مبلغاً معيناً من المال في ميزانية الدولة للنفقات الحربية من برية وبحرية وهوائية. وإذا وقعت الحرب يزيدون في هذه المبالغ، ويجددون لها كثيراً من الضرائب، بل يجعلون جميع أموال الدولة والأمة ومصالحها ومرافقها تحت نفوذ قواد الحرب يتصرفون فيها بالنظام لا بالاستبداد، والمسلمون أولى منهم بكل ما ذكر.
{ذلكم خير لكم} أي ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو أبعد مرامي الأمم في حفظ حقيقتها، وعلو كلمتها، وتقرير سياستها خير لكم في دنياكم وآخرتكم، أي خير في نفسه بصرف النظر عن مقابله، أو خير من القعود والبخل عنه، أما الدنيا فلا حياة للأمم فيها ولا عز ولا سيادة إلا بالقوة الحربية، والقعود عن القتال عند الحاجة إليه يغري الأعداء بالقاعدين العاجزين، وحب الراحة يجلب التعب، وأما الآخرة فلا سعادة فيها إلا لمن ينصر الحق، ويقيم العدل، ويتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، باتباع الدين القويم، والعمل بالشرع العادل الحكيم. ولا يمكن هذا كله إلا باستقلال الأمة بنفسها، وقدرتها على حفظ سيادتها وسلطاتها بقوتها، كما تقدم تفصيله في تفسير الآيات الكثيرة من سورة الأنفال ولا سيما {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] وفي أوائل هذه السورة.
{إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون حقية هذه الخيرية علما إذعانيا يبعث على العمل. وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، أي يكن خيراً لكم، ويقدره بعضهم أمراً بالامتثال، أي فانفروا وجاهدوا. وقد علم تلك الخيرية وامتثل هذا الأمر المؤمنون الصادقون، واستأذن بعض المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف فأذن لهم على ضعف أعذارهم، وتخلف منهم ومن المؤمنين أناس آخرون فأنزل الله في الجميع الآيات الآتية في أثناء السفر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة، لا يعوقهم معوق. ولا يقعد بهم طارئ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الاخرة: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).. انفروا في كل حال، وجاهدوا بالنفوس والأموال، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات. (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير، فنفروا والعوائق في طريقهم، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار. ففتح اللّه عليهم القلوب والأرضين، وأعز بهم كلمة اللّه، وأعزهم بكلمة اللّه، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح. قرأ أبو طلحة -رضي اللّه عنه- سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بني. فقال بنوه: يرحمك اللّه قد غزوت مع رسول اللّه [ص] وعلى آله وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها...
ألا إنه من يحبه اللّه يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي اللّه من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا اللّه عز وجل. وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات اللّه انطلق الإسلام في الأرض، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة اللّه وحده، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة...
وهكذا يفتح الحق باب الوصول إليه؛ ليهبّوا إلى نصرة الرسول ويزيل الضباب من أذهانهم، ويفتح لهم باب الوصول إليه لأنهم خلق الله وعياله، فهو سبحانه يريد منهم أن يكونوا جميعا مهديين، وأن يشاركوا في نُصرة الدعوة إليه. والقتال في سبيل الله قد يكون مشقة في ظاهر الأمر، ولكنه يَهَبُ الدعوة انتشارا واستقرارا. وحين يقوم المسلمون بنصر الدعوة إلى الله، ففي هذا القيام مغفرة وتوبة، وهو رحمة من الله بهم...
وبعد أن لام الحق سبحانه المسلمين، لأنهم لم يتحمسوا للجهاد، يفتح أمامهم باب التوبة فقال: {انفروا} أي: اخرجوا للقتال، وهذا أمر من الله يوقظ به سبحانه الإيمان في قلوب المسلمين، وفي الوقت نفسه يفتح أمامهم باب التوبة لتباطئهم عن الخروج للقتال في غزوة تبوك. ولذلك قال {انفروا خفافا وثقالا}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الدعوة إلى النفور خفافاً وثقالاً:
ويعود النداء الإلهي من جديد، ليستحثهم ويحرّك فيهم إرادة الجهاد من خلال إرادة الإيمان الحي في نفوسهم، فماذا ينتظر المؤمن أمام نداء الله إلا أن يستجيب له، لأن في ذلك الخير كل الخير، والنجاح كل النجاح، لو وعى الإنسان حقيقة الموقف وحقيقة الإيمان. نداء النفير العام {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} لأن القضيّة ليست في ما ترزحون تحته من أثقال المسؤوليات الحياتية أو في ما تملكونه من حرية الحركة من خلال الحمل الخفيف الذي تتحرك فيه مسؤوليتكم، فإن الأمر في الحالتين سواء، فلا عذر لمن يتمكن من الخروج ولا يخرج للجهاد الذي يمثل قصة المصير في حركة الإسلام في الحياة، إن النداء يشبه الدعوة إلى النفير العام على كلّ حالٍ، بعيداً عن الظروف المعوّقة أو المنشّطة.. {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ} وذلك بأن تقدّموا للمعركة من أموالكم المقدار الذي تحتاجه مما يمكنكم بذله، فذلك هو لونٌ من ألوان الجهاد، في ما يمثّله من تضحيةٍ وجهدٍ ومشقّةٍ وتعب {وَأَنفُسِكُمْ} وذلك بأن تقفوا في خطّ المواجهة في المعركة، لتقاتلوا ولتقتحموا على العدوّ ساحته وتواجهوا الخطر كله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأنكم مدعوّون إلى القتال من أجل حماية الإسلام والمسلمين من كل التحديات التي يوجهها إليهم الكفر كله، والشرك كله. فأنتم في سبيل من سُبُل الله، وبذلك فإن أجركم يقع على الله إن بقيتم على الحياة أو متُّم {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الاسترخاء في ظلال الكسل وحب الراحة والبعد عن المسؤوليّة، لأن ذلك لن ينقذكم من المشاكل الصعبة التي يفرضها عليكم الذلّ في حالة السلم من قِبَل الأعداء، إذا تخلصتم من مشاكل الحرب، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وتعون دقّة المرحلة من خلال ما تفرضه من مجابهةٍ ورقابةٍ ومحاسبةٍ ودراسةٍ للوضع كله بعيداً عن حالات التشنّج والحيرة والضياع...