المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ} (1)

مقدمة السورة:

تحدثت هذه السورة عن المكذب بالجزاء في الآخرة ، فذكرت من أوصافه : أنه يهين اليتيم ويزجره غلظة لا تأديبا ، وأنه لا يحث بقول أو فعل على إطعام المساكين ؛ لأنه شحيح بماله ، بخيل بما في يده ، ثم ذكرت فريقا شبيها بهذا المكذب بالجزاء ، وهم غافلون عن صلاتهم الذين لا يؤدونها كما طلبت ، والذين يقومون بها صورة لا معنى ، المراءون بأعمالهم ، المانعون معونتهم من المحتاجين إليها ، وتوعدت هؤلاء بالويل والهلاك ليرجعوا عن غيهم .

1- أَعَرَفْت الذي يكذب بالجزاء والحساب في الآخرة ؟

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير { سورة الماعون } لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها .

وسميت في بعض التفاسير { سورة أرأيت } وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في صحيح البخاري .

وعنونها ابن عطية ب{ سورة أرأيت الذي } . وقال الكواشي في التلخيص { سورة الماعون والدين وأرأيت } ، وفي الإتقان : وتسمى { سورة الدين } وفي حاشيتي الخفاجي وسعدي تسمى { سورة التكذيب } وقال البقاعي في نظم الدرر تسمى { سورة اليتيم } . وهذه ستة أسماء .

وهي مكية في قول الأكثر . وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية . وروي عن ابن عباس أيضا . وفي الإتقان : قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله { المسكين } وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي بناء على أن قوله { فويل للمصلين } إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير وهو الأظهر .

وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية ، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون .

وعدت آياتها ستا عند معظم العادين : وحكى الآلوسي : أن الذين عدوا آياتها ستا أهل العراق أي البصرة والكوفة وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في غيث النفع : وآيها سبع حمصي أي شامي وست في الباقي . وهذا يخالف ما قاله الآلوسي .

أغراضها

من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين ، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه .

الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء ، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع . فالتعجيب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دَعّ اليتيم وعدم الحضّ على طعام المسكين ، وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوِّق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام ، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثاراً للتعجب فيترقب السامع ماذا يَرِد بعده وهو قوله : { فذلك الذي يدع اليتيم } .

وفي إقحام اسم الإِشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كَمَالَ تَمكُّن .

وأصل ظاهر الكلام أن يقال : أرأيت الذي يكذب بالدين فَيدُع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين .

والإِشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإِشارة لتمييزه أكملَ تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته ، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه .

والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام ، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحداً مثل قوله تعالى : { والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً } [ الصافات : 1 3 ] .

فمعنى الآية عطفُ صفتي : دَع اليتيم ، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين .

وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنَافياً لما تقتضيه الحكمة من التكليف ، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء .

وجيء في { يكذب } ، و { يدُعّ } ، و { يَحُضّ } بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه .

وهذا إيذان بأن الإِيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء .

والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصَر المشاهد .

وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من { أرأيت } ألفاً . وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفاً وهو الذي قرأنا به في تونس ، وهكذا في فعل ( رأى ) كلما وقع بعد همزة استفهام ، وذلك فرار من تحقيق الهمزتين ، وقرأه الجمهور بتحقيقهما .

وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل . واسم الموصول وصلتُه مراد بهما جنس من اتصف بذلك . وأكثر المفسرين درجوا على ذلك .

وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وقيل : في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقيل : في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقيل : في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان يَنحر كل أسبوع جَزوراً فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا .

وقيل : في أبي جهل : كان وصياً على يتيم فأتاه عرياناً يسأله من مال نفسه فدفعه دفعاً شنيعاً .

والذين جعلوا السورة مدنية قالوا : نزلت في منافق لم يسموه ، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصِّصاً حكمَها بمن نزلتْ بسببه .