نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَرَءَيۡتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ} (1)

لما أخبر سبحانه وتعالى عن فعله معهم من الانتقام ممن تعدى حدوده فيهم ، ومن الرفق بهم بما هو غاية في الحكمة ، فكان معرفاً بأن فاعله لا يترك الناس سدى من غير جزاء ، وأمرهم آخر قريش بشكر نعمته بإفراده بالعبادة ، عرفهم أول هذه أن ذلك لا يتهيأ إلا بالتصديق بالجزاء الحامل على معالي الأخلاق ، الناهي عن مساوئها ، وعجب ممن يكذب بالجزاء مع وضوح الدلالة عليه بحكمة الحكيم ، ووصف المكذب به بأوصاف هم منها في غاية النفرة ، وصوّره بأشنع صورة بعثاً لهم على التصديق ، وزجراً عن التكذيب ، فقال خاصاً بالخطاب رأس الأمة إشارة إلى أنه لا يفهم هذا الأمر حق فهمه غيره : { أرأيت } أي أخبرني يا أكمل الخلق { الذي يكذب } أي يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان { بالدين * } أي الجزائي الذي يكون يوم البعث الذي هو محط الحكمة وهو غاية الدين التكليفي الآمر بمعالي الأخلاق ، الناهي عن سيئها ، ومن كذب بأحدهما كذب بالآخر ، ولما كان فعل الرؤية بمعنى أخبرني ، المتعدي إلى مفعولين ، كان تقدير المفعول الثاني : أليس جديراً بالانتقام منه .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما تضمنت السور المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر فيها مما هو جارٍ على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت كقوله : { إن الإنسان لربه لكنود } { إن الإنسان لفي خسر } { يحسب أن ماله أخلده } وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية ما ذكر فيها أيضاً كالشغل بالتكاثر ، والطعن على الناس ولمزهم والاغترار المهلك أصحاب الفيل ، أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين إلى الإسلام ، أو يوجد بعضها ، أو أعمال من يتصف بها ، وإن لم يكن من أهلها كدع اليتيم ، وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به ، وعدم الحض على طعام المسكين ، والتغافل عن الصلاة والسهو عنها ، والرياء بالأعمال والزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى بعض ، ويمكن أن يتضمن إبهام الماعون هذا كله ، ولا شك أن هذه الصفات توجد في المتسمين بالإسلام ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب . أي إن هؤلاء هم أهلها ، ومن هذا القبيل قوله عليه الصلاة والسلام : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ، وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة ، وقد بسطته في كتاب " إيضاح السبيل من حديث سؤال جبريل " ، فمن هذا القبيل عندي - والله أعلم - قوله تعالى : { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } أي إن هذه الصفات من دفع اليتيم وبعد الشفقة عليه ، وعدم الحض على إطعامه ، والسهو عن الصلاة ، والمراءاة بالأعمال ، ومنع الحاجات ، إن هذه كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء ؛ لأن نفع البعد عنها إنما يكون إذ ذاك ، فمن صدق به جرى في هذه الخصال على السنن المشكور والسعي المبرور ، ومن كذب به لم يبال بها وتأبط جميعها ، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها ، فليست من صفاتكم في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه ، فمن تشبه بقوم فهو منهم ، فاحذروا هذه الرذائل ، فإن دع اليتيم من الكبر الذي أهلك أصحاب الفيل ، وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن ماله أخلده ، والسهو عن الصلوات من ثمرات إلهاء التكاثر ، والشغل بالأموال والأولاد ، فنهى عباده عن هذه الرذائل التي يثمرها ما تقدم ، والتحمت السور . انتهى .