( الآيات الثلاث الأولى من سورة الماعون مكية ، وبقية السورة مدنية ، وآياتها 7 آيات ، نزلت بعد سورة التكاثر )
وهي سورة ذات معنى أصيل في الشريعة ، تعالج حقيقة ضخمة ، هي أن هذا الدين ليس مظاهر وطقوسا ، ولكنه عقيدة صادقة ، ويقين ثابت ، وإخلاص لله ، ويتمثل هذا اليقين في سلوك نافع ، وحياة مستقيمة . كما أن هذا الدين ليس أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة ، وإنما هو منهج متكامل ، تتعاون عباداته وشعائره في تحقيق الخير للفرد والجماعة .
1- أرأيت الذي يكذّب بالدين . أي : هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية والشئون الغيبية ، بعد أن ظهر له الدليل القاطع والبرهان الساطع .
قال ابن جريح : نزلت في أبي سفيان ، كان ينحر جزورين في كل أسبوع ، فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه .
وقال مقاتل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة .
وعن السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة .
وقيل : في أبي جهل ، وحكى المارودي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه ، فدفعه ولم يعبأ به ، فأيس الصبي ، فقال له أكابر قريش استهزاء : قل لمحمد يشفع لك ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتمس منه الشفاعة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد محتاجا ، فذهب معه إلى أبي جهل فقام أبو جهل ورحب به وبذل المال لليتيم ، فعيرته قريش وقالوا له : صبأت ، فقال : لا والله ما صبأت ، ولكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة ، خفت إن لم أجبه أن يطعنها فيّ .
وقال كثير من المفسرين : إنه عام لكل من كان مكذبا بيوم الدين .
2- فذلك الذي يدعّ اليتيم . أي : فذلك المكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم ، ويزجره زجرا عنيفا ، لقد خلا من الرحمة ، وامتلأ بالكبر والغطرسة ، ولذلك أهان اليتيم وآذاه ، واليتيم مظهر من مظاهر الضعف ، فقد فقد الأب الذي يحميه ، والعائل الذي يحنو عليه ، ومن واجب المجتمع أن يتعاون على إكرامه ، والأخذ بيده حتى ينشأ عزيزا كريما . إن كل فرد معرّض لأن يفاجئه الموت وأن يترك أولاده يتامى ، فليعامل اليتيم بما يحب أن يعامل به أولاده لو كانوا يتامى .
قال تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرّية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا . ( النساء : 9 ) .
وقد تكررت وصايا القرآن برعاية اليتيم والمحافظة على ماله ، والتحذير من تضييع حقه ، ورد ذلك في السور المكية والسور المدنية ، ففي هذه الآيات وفي سورة الضحى –وهي من أوائل ما نزل من القرآن- وصية باليتيم ، وفي صدر سورة النساء المدنية تفصيل واف لرعاية اليتيم بدأ بقوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا . ( النساء : 2 ) .
وقد وردت عدة وصايا باليتيم في الآيات : السادسة ، والعاشرة ، والسادسة والعشرين من سورة النساء . كما تكررت الوصية باليتيم في آيات القرآن ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيوت المسلمين بين فيه يتيم يساء إليه ) .
3- ولا يحضّ على طعام المسكين . أي : ولا يحث على إطعام المسكين .
قال الإمام محمد عبده : وهو كناية عن الذي لا يجود بشيء من ماله على الفقير المحتاج إلى القوت ، الذي لا يستطيع كسبا .
وليس المسكين هو الذي يطلب منك أن تعطيه وهو قادر على قوت يومه ، بل هذا هو الملحف الذي يجوز الإعراض عنه ، وتأديبه بمنعه ما يطلب ، وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين ولم تجد ما تعطيه ، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه ، وفيه حث للمصدقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم ، وهي طريقة الجمعيات الخيرية ، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية ، وبنحو قوله تعالى في سورة الفجر : كلاّ بل لا تكرمون اليتيم* ولا تحاضّون على طعام المسكين . ( الفجر : 17 ، 18 ) . ونعمت الطريقة هي لإغاثة الفقراء ، وسد شيء من حاجات المساكين .
( إن حقيقة التصدق بالدين ليست كلمة تقال باللسان ، إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية ، المحتاجين إلى الرعاية والحماية ، والله لا يريد من الناس كلمات ، إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها ، وإلا فهي هباء لا وزن لها عنده ولا اعتبار . وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة ، وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل )i .
4 ، 5- فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون . أي : إذا عرفت أن المكذب بالدين هو الذي أقفر قلبه من الرحمة ، وأجدب من العدل والمكرمة ، ( فويل لأولئك الذين يصلّون ، ويؤدون ما يسمى صلاة في عرفهم من الأقوال والأفعال وهم مع ذلك ساهون عن صلاتهم ، أي غافلة قلوبهم عما يقولون وما يفعلون ، فهو يركع في ذهول عن ركوعه ، ويسجد في لهوة عن سجوده )ii . وإنما هي حركات اعتادها ، وأدعية حفظها ، ولكن قلبه لا يعيش معها ، ولا يعيش بها ، وروحه لا تستحضر حقيقة الصلاة ، وحقيقة ما فيها .
6- الذين هم يراءون . أي : يفعلون ما يرى للناس فقط ، ولا يستشعرون من روح العبادة ما أوجب الله على النفوس أن تستشعره .
( إنهم يصلّون رياء للناس لا إخلاصا لله ، ومن ثم فهم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها ، ساهون عنها لم يقيموها ، والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها ، وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها ) . iii .
7- ويمنعون الماعون . أي : يمنعون المساعدة عن المستحق لها ، أو يمنعون ما اعتاد الناس قضاءه وتداوله فيما بينهم ، تعاونا وتآزرا ، ولا يمنعه إلا كل شحيح يكره الخير .
( إنهم يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية ، يمنعون الماعون عن عباد الله ، ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده ، فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله )iv .
( وأكثر المفسرين على أن الماعون اسم جامع لما لا يمنع في العادة ، ويسأله الفقير والغني في أغلب الأحوال ، ولا ينسب سائله إلى لؤم بل ينسب مانعه إلى اللؤم والبخل ، كالفأس والقدر والدلو والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الماء والملح والنار ، لما روي : ( ثلاثة لا يحل منعها : الماء والنار والملح ) .
وقد تسمى الزكاة ماعونا ، لأنه بسببها يؤخذ من المال ربع العشر ، وهو قليل من كثير .
قال العلماء : ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران فيعيرهم ذلك ، ولا يقتصر على قدر الضرورة ، وقد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار )v .
إن الشرائع السماوية إنما أنزلت لتهذيب الضمير ، ونقاء القلوب ، وصفاء النفوس ، وتقويم السلوك ، وبذلك تسمو الحياة ، ويسود الحب والتآلف ، والإخاء والتكافل الجميل .
1- الدين ليس رسوما وطقوسا ، ولكنه عقيدة صادقة وسلوك مستقيم .
2- الدين الحق صلاة خاشعة ، ورعاية لليتيم ، وحماية للمسكين ، ومساعدة للمحتاجين .
3- المكذب بالدين له سمات وصفات ، هي : إذلاله لليتيم ، عدم رحمة المسكين ، الانشغال عن الصلاة ، الرياء والنفاق ، منع العون والمعونة عن المحتاج إليها .
{ أرأيت الذي يكذّب بالدين 1 فذلك الذي يدعّ اليتيم 2 ولا يحضّ على طعام المسكين 3 فويل للمصلين 4 الذين هم عن صلاتهم ساهون 5 الذين هم يراءون 6 ويمنعون الماعون 7 }
أرأيت الذي يكذب بالدين : الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ، والمراد بالدين : الحساب والجزاء .
هل شاهدت هذا الصنف من الناس الذي يكذّب بيوم الجزاء ، ويكفر بالبعث والحشر ، والثواب والعقاب ، وقد ورد أنها نزلت في عدد من رؤوس الكفر ، كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وظلموا اليتامى وأكلوا حقوقهم ، ولم يعطفوا على الضعفاء ولم يساعدوهم ، لذلك نجد فريقا من المفسرين يقول : إن الآيات الثلاث الأولى تتحدث عن الكافرين ، والآيات الأربع الأخيرة تتحدث عن المنافقين . vi
وفريقا آخر يرى أن الآيات الكريمة في سورة الماعون تنطبق على المسلمين الذين يزعمون أنهم مسلمون ، لكن تصديقهم بالدين أصبح ضعيفا أو باهتا ، بدليل حبس أموالهم ومعروفهم عن اليتيم والمسكين ، ودخولهم في الصلاة بدون قلب حاضر ، وإنما هو الرياء والتظاهر ، ولا يهتمون بالتعاون لرفع مستوى معيشة الفقراء والمساكينvii .
وعند التأمل نجد أن السورة يمكن أن تنطبق على الكافرين والمنافقين كما ذهب الفريق الأول ، كما يمكن أن تشمل ضعفاء الإيمان الذين لا يقومون بحق الله كاملا ، ولا يؤدون حقوق العباد على الوجه السليم ، كما ذهب الفريق الثاني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.