المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

171- وإن مثل من يدعو أولئك الكافرين الجاحدين إلى الحق والهدى - فلا يستجيبون له ولا يفقهون ما يدعوهم إليه - كمثل راعى الغنم يناجيها ، فلا تفقه منه شيئاً ولا يقرع سمعها إلا الصوت ولا تعي غيره ، فهم كذلك عن الحق صُمّ الآذان ، عُمْي البصائر ، خُرْس الألسنة ، لا ينطقون بخير ، ولا يصدرون عن عقل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

لما ذكر تلقيَهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا } [ البقرة : 170 ] ، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] الآية ، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من { الناس } في قوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } وعين المراد من { الذين ظلموا } في قوله : { ولو يرى الذين ظلموا } [ البقرة : 165 ] ، وعين الناس في قوله : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله : { وإذا قيل لهم } [ البقرة : 170 ] ، عُقّب ذلك كله بتمثيلِ فظيع حالهم إبلاغاً في البيان واستحضاراً لهم بالمثال ، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] . وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك .

والمثل هنا لَمَّا أضيف إلى { الذين كفروا } كان ظاهراً في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه ، فكلٌّ من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء : داعٍ ومدعو ودعوة ، وفَهْم وإعراض وتصميم ، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبهاً بجزء من أجزاء المشبه به ، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزتْه الآية إيجازاً بديعاً ، والمقصود ابتداءً هو تشبيه حال الكفار لا محالة ، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته ، وللكفار هنا حالتان : إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام ، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام ، وقد تضمنت الحالتين الآيةُ السابقة وهي قوله : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا } [ البقرة : 170 ] وأعظمه عبادة الأصنام ، فجاء هذا المَثَل بياناً لما طُوي في الآية السابقة .

فإن قلت : مقتضى الظاهر أن يقال : ومثل الذين كفروا كمثل غَنَم الذي ينعق ؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يُشبههُ داعي الكفار فلماذا عدل عن ذلك ؟ وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لهم بالذي ينعق ؟ قلت : كِلاَ الأمرين منتف ؛ فإن قوله : { ومثل الذين } ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالاً وأيَّها ذكرتَ في جانب المركب المشبَّه والمركب المشبه به أجزأك ، وإنما كان الغالب أن يبدءَوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } وقد لا يلتزمون ذلك ، فقد قال الله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر } [ آل عمران : 117 ] الآية . والذي يقابل { ما ينفقون } في جانب المشبه به هو قوله : { حرث قوم } [ آل عمران : 117 ] وقال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] وإنما الذي يقابل { الذين ينفقون } في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلاً وقال تعالى : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] الآية ، والذي يقابل الصفوانَ في جانب المشبه هو المال المنفَق لا الذي ينفق ، وفي الحديث الصحيح « مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء » الخ ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا ، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلاً ، وهو استعمال كثير جداً ، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى ، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم ، أو تشبيه حال المشركين في إقبَالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم ، وأيّاً ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق ، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون قوله : { إلا دعاء ونداء } من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به ، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك ، ولأَنْ يكون احتراساً في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رُعاتها فهي لا تسمع إلاّ دُعاء ونداء ، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذٍ مثل قوله تعالى : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } [ البقرة : 74 ] ثم قال : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } [ البقرة : 74 ] .

وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين ، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى ؛ فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حَمَّلْتُه من الهيئة كلها ، وهيئةُ المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على دينهم كما هو مدلول قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع } [ البقرة : 170 ] الآية ، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يَسمع ، فالنبي يدعوهم كناعقٍ بغنم لا تفقه دليلاً ، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئاً .

ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع .

والنعق نداء الغنم وفعله كضربَ ومنَع ولم يُقرأ إلاّ بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منَع أقيس ، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريراً بأن لا طائل في هجائه الأخطلَ :

فانْعِقْ بضأْنك يا جرير فإنما *** منَّتْك نفسُك في الظلام ضلالا

والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد ، فهو تأكيد ولا يصح ، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، وقيل الدعاء ما يُسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح .

والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم ، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات ، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها ، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف ؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام ، أو المراد به هنا نداء الرِّعاء بعضهم بعضاً للتعاون على ذود الغنم ، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } [ الأعراف : 43 ] في سورة الأعراف .

وقوله : { صم بكم عمى } أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل ، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومةِ مِنْ يَنعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهداً على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط : هو أعمى ، إلاّ أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكماً بالمشركين فقيل : صم بكم عمي كقول إبراهيم : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] .

وقوله : { فهم لا يعقلون } تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان ، فإن كان ذلك راجعاً للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادىء الرأي ، أي إن تأملتم وجدتموهم لا يعقلون ؛ لأنهم كالأنعام والصمِّ والبكممِ الخ ، وإن كان راجعاً للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها . ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم .