33- إنما عقاب الذين يحاربون الله ورسوله ، بخروجهم على نظام الحكم وأحكام الشرع ، ويفسدون في الأرض بقطع الطريق أو انتهاب الأموال : أن يُقْتَلوا بمن قتلوا ، وأن يُصلبوا إذا قتلوا وغصبوا المال ، وأن تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا قطعوا الطريق وغصبوا المال ولم يقتلوا ، وأن يُنفوا من بلد إلى بلد ، وأن يُحبسوا إذا أخافوا فقط . ذلك العقاب ذل لهم وإهانة في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار{[54]} .
{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادً } ، الآية . قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد ، وقطعوا السبيل ، وأفسدوا في الأرض . وقال الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر ، وهو أبو بردة الأسلمي ، على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج ، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر ، ولم يكن هلال شاهداً فشدوا عليهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فنزل جبريل عليه السلام بالقضية فيهم ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة وعكل ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة ، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فارتدوا ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو قلابة الجرمي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قدم علي النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عكل فأسلموا ، واجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا فصحوا ، فارتدو ، ا وقتلوا رعاتها ، واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فأتى بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا .
ورواه أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس رضي الله عنه قال : فقطع أيديهم ، وأرجلهم ، ثم أمر بمسامير فكحلهم بها ، وطرحهم بالحرة يستسقون ، فما يسقون حتى ماتوا .
قال أبو قلابة : قتلوا ، وسرقوا ، وحاربوا الله ورسوله ، وسعوا في الأرض فساداً . واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين ، فقال بعضهم : هي منسوخة ، لأن المثلة لا تجوز ، وقال بعضهم : حكمه ثابت إلا السمل والمثلة . و روى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن ينزل الحد ، وقال أبو الزناد : فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ، ونهاه عن المثلة ، فلم يعد . وعن قتادة قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة ، وينهى عن المثلة . وقال سليمان التيمي عن أنس : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة ، وقال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً منه إياه عقوبتهم ، وقال : إنما جزاؤهم هذا لا المثلة ، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً إلا نهى عن المثلة . واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد ، فقال قوم : هم الذين يقطعون الطريق ، ويحملون السلاح على المسلمين ، والمكابرون في الأمصار ، وهو قول الأوزاعي ، ومالك ، والليث بن سعد ، والشافعي رحمهم الله . وقال قوم : هم المكابرون في الأمصار ، ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذا الحد . وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه . وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى .
قوله تعالى : { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ، فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب ، والنفي كما هو ظاهر الآية ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن والنخعي ومجاهد . وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق ، إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض . وهو قول قتادة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى . وإذا قتل قاطع الطريق يقتل حتماً حتى لا يسقط بعفو ولي الدم ، وإذا أخذ من المال نصاباً ، وهو ربع دينار ، تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإذا قتل وأخذ المال يقتل ويصلب . واختلفوا في كيفيته : فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يقتل ، ثم يصلب ، وقيل : يصلب حياً ، ثم يطعن حتى يموت مصلوباً ، وهو قول الليث بن سعدويه ، وقيل : يصلب ثلاثة أيام حياً ، ثم ينزل فيقتل ، وإذا أخاف السبيل ينفى . واختلفوا في النفي : فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ، ففي كل بلد يوجد ينفى عنه ، وهو قول سعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وقيل : يطلبون لتقام عليهم الحدود ، وهو قول ابن عباس ، والليث بن سعدويه ، قال الشافعي : وقال أهل الكوفة : النفي هو الحبس ، وهو نفي من الأرض ، وقال محمد بن جرير : ينفي من بلده إلى غيره ، ويحبس في السجن في البلد الذي نفي إليه حتى تظهر توبته . وقال مكحول : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون ، وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم .
قوله تعالى : { ذلك } ، الذي ذكرت من الحد .
تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين ، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل . ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل . نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين ، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير ، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ . ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه : " قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْلٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض ، فقال لهم : هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها " فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا ، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا . فبعث رسول الله في آثارهم ، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم ، فأمر بهم ، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت ، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا . وقيل : أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا . قال جماعة : وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة ، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة . نقل ذلك مَوْلى ابنِ الطلاع في كتاب « الأقضيَة المَأثورة » بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين ، وعلى هذا يكون نزولها نسخاً للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه ، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع . وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين ، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة . قال أبو قِلابة : فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله . وفي رواية للطبري : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض . رواه عن ابن عبّاس والضحّاك . والصّحيح الأوّل . وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية .
فالحصر ب { إنّما } في قوله { إنّما جزاء الّذين يحَاربُون } الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي ، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين ، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك ، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة . وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه . وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلاً .
وأيَّامّاً كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها ، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة . والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازماً .
ومعنى { يحاربون } أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عُدواناً لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي ، لأنّ حقيقة الحرب القتال . ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه ، وقد عُلم أنّ الله لا يحارِبه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بمحاربَة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه ، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نَعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين ، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقاباً على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام . ثُمّ إنّ الله شرع حكماً للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده ، وسوّى عقوبتها ، فتعيّن أن يصير تأويل { يحاربون الله ورسوله } المحاربة لجماعة المسلمين . وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة ، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة . ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين ، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين ، فلهذا المعنى عُدّي { يحاربون } إلى { الله ورسوله } ليظهر أنّهم لم يَقصدوا حربَ معيَّن من النّاس ولا حرب صَفّ .
وعُطف { ويسعون في الأرض فساداً } لبيان القصدِ من حربهم اللّهَ ورَسوله ، فصار الجزاء على مجموع الأمرين ، فمجمُوعُ الأمرين سَبَب مركّب للعقوبة ، وكلّ واحد من الأمرين جزءُ سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها .
وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة ؛ فقال مالك : هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارَب بالفتح ، سواء في البادية أو في المِصر ، وقال به الشّافعي وأبو ثور . وقيل : لا يكون المحارب في المصر محارِباً ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق . والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة ، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر . وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه « ونّاس » أخاف أهل تونس بحيله في السرقة ، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقاً بباب سويقة .
ومعنى { يسعون في الأرض فساداً } أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه ، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللَّمّ ، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] . ويقولون : سعَى فلان لأهله ، أي اكتسب لهم ، وقال تعالى : { لتجزي كُلّ نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] .
وصاحب « الكشاف » جعله هنا بمعنى المشي ، فجعل { فساداً } حالاً أو مفعولاً لأجله ، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل ، ويكون الفعل منزّلاً منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله . وجَوّز أن يكون سعَى بمعنى أفسد ، فَجَعل { فساداً } مفعولاً مطلقاً . ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد .
والفساد : إتلاف الأنفس والأموال ، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثّياب ونحو ذلك .
و { يُقتّلوا } مبالغة في يُقْتلوا ، كقول امرىء القيس :
قُصِد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديداً عليهم ، وكذلك الوجه في قوله { يُصَلَّبوا } .
والصّلب : وضع الجاني الّذي يُراد قتله مشدوداً على خشبة ثُمّ قتله عليها طَعناً بالرّمح في موضع القتل . وقيل : الصّلب بَعْد القتل . والأول قول مالك ، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي .
و { مِنْ } في قوله { مِن خلاف } ابتدائية في موضع الحال من { أيديهم وأرجلُهم } ، فهي قيد للقطع ، أي أنّ القطع يبتدىء في حال التخالف ، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المُخالف فتعيّن أنّه مخالِف لمقطوععٍ آخر وإلاّ لم تتصوّر المخالفة ، فإذا لم يكن عضو مقطوعٌ سابقٌ فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفاً ثُمّ تجري المخالفَةُ فيما بعدُ . وقد علم من قوله : { من خلاف } أنّه لا يقطع من المحارب إلاّ يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه ؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف . فهَذا التّركيب من بديع الإيجاز . والظاهر أنّ كون القطع مِن خلاف تيسير ورحمة ، لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عُود بجهة الرّجل المقطوعة .
قال علماؤنا : تقطع يده لأجل أخذ المال ، ورجلُه للإخافة ؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة ، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم .
والنّفي من الأرض : الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود . والمراد الإبعاد ، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم . يقال : نفوا فلاناً ، أي أخرجوه من بينهم ، وهو الخليع ، وقال النّابغة :
ليُهنىء لكم أنْ قَدْ نَفَيْتُم بُيُوتنا
أي أقصيتمونا عن دياركم . ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا . وقال أبو حنيفة وبعض العلماء : النّفي هو السجن . وحمَلهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عنْ قوم كانَ فيهم بتسليط ضُرّه على قوم آخرين . وهو نظر يَحمل على التّأويل ، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفيَ يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذُلّ وخُضدت شوكته ، قال امرؤ القيس :
به الذئْب يعوي كالخليع المُعَيَّل
وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده . على أنّ من العلماء من قال : ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور .
قال أبو الزناد : كان النّفي قديماً إلى ( دَهْلَكَ ) وإلى ( بَاضِع ){[221]} وهما جزيرتان في بحر اليمن .
وقد دلّت الآية على أمرين : أحدهما : التخيير في جزاء المحاربين ؛ لأنّ أصل ( أو ) الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع ، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير ، نحو { ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك } [ البقرة : 196 ] . وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس ، وسعيدُ بن المسيّب ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة ، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذَ بأشدّ العقوبة كالقتل ؛ قُتل دون تَخيير ، وهو مُدرك واضح . ثُمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مُقامه في فساده . وذهب جماعة إلى أنّ ( أو ) في الآية للتّقسيم لا للتخيير ، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب : فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب ، ومن لم يَقتل ولا أخذَ مالاً عُزّر ، ومن أخاف الطريق نُفي ، ومن أخذ المال فقط قطع ، وهو قول ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن ، والسديّ ، والشافعي . ويقرب خلافهم من التّقارب .
والأمر الثّاني : أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس ، كما دلّ على ذلك قوله بعدُ { إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تَقدروا عليهم } الآية وهو بيّن . ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة .
وقوله { ذلك لهم خِزي في الدّنيا } ، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا . والخزي : الذلّ والإهانة { ولا تُخزنا يوم القيامة } [ آل عمران : 194 ] . وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين : عقاباً في الدّنيا وعقاباً في الآخرة . فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعُرنيّين ، كما قيل به ، فاستحقاقهم العذابين ظاهر ، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارِضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } [ الممتحنة : 12 ] الخ فقال : « فَمَن وفَى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهْوَ إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له » فقوله : فهو كفارة له ، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة ، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظاً على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب ، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل ، أي لهم خزي في الدنيا إن أُخِذوا به ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا .