قوله تعالى : { الملك يومئذ الحق للرحمن } أي : الملك الذي هو الملك الحق حقاً ، ملك الرحمن يوم القيامة . قال ابن عباس : يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضى غيره . { وكان يوماً على الكافرين عسيراً } شديداً ، فهذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمن عسيراً ، وجاء في الحديث : " أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا " .
ثم قرّر أن «الملك الحق هو يومئذ للرحمن » ، إذ قد بطل في ذلك اليوم كل ملك وعسره { على الكافرين } توجه بدخول النار عليهم فيه وما في خلال ذلك من المخاوف ، وقوله : { على الكافرين } دليله ، أن ذلك اليوم سهل على المؤمنين . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله ليهون القيامة على المؤمنين حتى يكزن أخف عليهم من صلاة مكتوبة صلوها »{[8817]} .
قوله : { الملك يومئذٍ } هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به { يَومَ تشقق السماء بالغمام } ، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله : { يَوْم يَرَوْن الملائكة } [ الفرقان : 22 ] وكذلك القول في تكرير { يومئذ } .
و { الحق } : الخالص ، كقولك : هذا ذهب حقّاً . وهو المُلك الظاهر أنه لا يماثله مُلك ، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة . والمُلك الكامل إنما هو لله ، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتَبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق ، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئاً من التصرف ، وفي الحديث : « ثم يقول الله : أنا المَلِكُ أيْن ملوكُ الأرض »
ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين .
وتقديم { على الكافرين } للحصر . وهو قصر إضافي ، أي دون المؤمنين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الملك يومئذ الحق للرحمن} وحده جل جلاله، واليوم الكفار ينازعونه في أمره، {وكان يوما على الكافرين عسيرا}، يقول: عسر عليهم يومئذ مواطن يوم لشدة القيامة ومشقته، ويهون على المؤمن كأذني صلاته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقّ للرّحْمَنِ} يقول: الملك الحقّ يومئذ خالص للرحمن دون كلّ من سواه، وبطلت الممالك يومئذ سوى ملكه، وقد كان في الدنيا ملوك، فبطل الملك يومئذ سوى ملك الجبار.
{وكانَ يَوْما عَلى الكافِرِينَ عَسِيرا} يقول: وكان يومُ تشقّق السماء بالغمام يوما على أهل الكفر بالله "عسيرا"، يعني: صعبا شديدا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى إن (الملك) الذي هو السلطان بسعة المقدور وتدبير العباد في ذلك اليوم، ووصفه بأنه الحق "للرحمن "الذي أنعم على جميع خلقه، وأن ذلك اليوم كان على الكافرين عسيرا، يعني صعبا شديدا، والعسير هو الذي يتعذر طلبه، ونقيضه اليسير. والحق هو ما كان معتقده على ما هو به، معظم في نفسه، ولذلك وصفه تعالى بأنه الحق، ووصف ملكه أيضا بأنه الحق لما ذكرناه. وقيل "الملك" على ثلاثة أضرب: ملك عظمة، وهو لله تعالى وحده. وملك ديانة بتمليك الله تعالى. وملك جبرية بالغلبة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الحق: الثابت؛ لأن كل ملك يزول يومئذ ويبطل، ولا يبقى إلاّ ملكه.
الصفة الثانية لذلك اليوم: قوله: {الملك يومئذ الحق للرحمان} قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمان، ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به، ومعنى وصفه بكونه حقا أنه لا يزول ولا يتغير، فإن قيل مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمان فما الفائدة في قوله {يومئذ}؟ قلنا: لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى، فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ذلك اليوم سبباً لانكشاف الأمور ومعرفة أنه لا ملك لسواه سبحانه لأنه لا يقضي فيه غيره قال: {الملك يومئذ} أي يوم إذ تشقق السماء بالغمام؛ ثم وصف الملك بقوله: {الحق} أي الثابت، معناه ثابتاً لا يمكن زواله؛ ثم أخبر عنه بقوله: {للرحمن} أي العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقيقة ملكه أن يسر قلوب أهل وده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، ومعنى التركيب أن ملك غيره في ذلك اليوم إنما هو بالاسم الذي تقدم له في الدنيا تسميته به فقط، لا حكم له أصلاً ولا ظاهراً كما كان في الدنيا {وكان} أي ذلك اليوم الذي تظهر فيه الملائكة الذين طلب الكفار رؤيتهم {يوماً على الكافرين} أي فقط {عسيراً} شديد العسر والاستعار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {الملك يومئذٍ} هو صدر الجملة المعطوفة فيتعلق به {يَومَ تشقق السماء بالغمام}، وإنما قدم عليه للوجه المذكور في تقديم قوله: {يَوْم يَرَوْن الملائكة} [الفرقان: 22] وكذلك القول في تكرير {يومئذ}. و {الحق}: الخالص، كقولك: هذا ذهب حقّاً. وهو المُلك الظاهر أنه لا يماثله مُلك، لأن حالة الملك في الدنيا متفاوتة. والمُلك الكامل إنما هو لله، ولكن العقول قد لا تلتفت إلى ما في الملوك من نقص وعجز وتَبهرهم بهرجة تصرفاتهم وعطاياهم فينسون الحقائق، فأما في ذلك اليوم فالحقائق منكشفة وليس ثمة من يدّعي شيئاً من التصرف، وفي الحديث: « ثم يقول الله: أنا المَلِكُ أيْن ملوكُ الأرض» ووصف اليوم بعسير باعتبار ما فيه من أمور عسيرة على المشركين. وتقديم {على الكافرين} للحصر. وهو قصر إضافي، أي دون المؤمنين.
إن كانت الدنيا يملك الله فيها بعض خلقه بعض خلقه، كما قال سبحانه: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء... 26} (آل عمران): وقلنا: فرق بين المِلك والُملك: الِملك كل ما تملك ولو كان حتى ثوبك الذي ترتديه فهو ملك، أما المُلك فهو أن تملك من يملك، وهذا يعطيه الله تعالى، ويهبه لمن يشاء من باطن ملكه تعالى، كما أعطاه للذي حاج خليله إبراهيم عليه السلام: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك... 258} (البقرة) هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلا ملك ولا ملك لأحد، فقد سلب هذا كله، والملك اليوم لله وحده: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار16} (غافر).
إذن: فما في يدك من ملك الدنيا ملك غير مستقر، سرعان ما يسلب منك؛ لذلك يقول أحد العارفين للخليفة، لو دام الملك لغيرك ما وصل إليك. فالمسألة ليست ذاتية فيك، فملكك من باطن ملك الله تعالى صاحب الملك، وهو الملك الحق، فملكه تعالى ثابت مستقر، لا ينتقل ولا يزول.
وإن انتقلت الملكية في الدنيا من شخص لآخر فإنها تجمع يوم القيامة في يده تعالى، وتجمع الملك والسلطة في يد واحدة إن كانت ممقوتة عندنا في الدنيا، حيث نكره الاحتكار والدكتاتورية التي تجعل السلطة والقهر في يد واحدة، إن كانت هذه مذمومة في البشر فهي محمودة عند الله تعالى؛ لأنها تتركز في الدنيا في يد واحد صاحب هوى.
أما في الآخرة فهي في يده تعالى، فالرحمة في الدنيا أن يوزع الملك والسلطان، والرحمة في الآخرة أن تجمع في يده تعالى: {الملك يومئذ الحق للرحمان} إذن: اجتماع الملك يوم القيامة لله تعالى من مظاهر الرحمة بنا، فلا تأخذها على أنها احتكار أو جبروت؛ لأنها في يد الرحمان الرحيم.
وكأن الحق –تبارك وتعالى- يطمئنك: لا تقلق، فالملك يوم القيامة ليس لأحد تخاف أن تقع تحت سطوته، إنما الملك يومئذ الحق للرحمان.
والحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام ثابتا لا يتغير فهو لا يتناقض ولا يتعارض، فالرجل إذا كلمك بكلام له واقع في الحياة وطلبت منه أن يعيده لك أعاده ألف مرة، دون أن يغير منه شيئا، لماذا؟ لأنه يقول من خلال ما يستوحي من الحقيقة التي شاهدها، أما إن كان كاذبا فإنه لا يستوحي شيئا؛ لذلك لا بد أن يختلف قوله في كل مرة عن الأخرى؛ لذلك قالوا: إن كنت كذوبا فكن ذكورا.
ومن رحمانيته تعالى أن يقول سبحانه: {وكان يوما على الكافرين عسيرا} فينبهنا إلى الخطر قبل الوقوع فيه، وهذه رحمة بنا أن ينصحنا ربنا ويعدل لنا، وإلا لو فاجأنا بالعقوبة لكان الأمر صعبا.
فإن ذكرت المقابل تقول إنه يسير على المؤمنين، فاحرص أيها الإنسان أن تكون من الميسر لا من المعسر عليهم.