84- ولقد أرسلنا إلى قوم مدين{[96]} أخاهم في النسب والمودة والتراحم شُعيبا ، قال لهم : يا قوم اعبدوا الله - وحده - ليس لكم من يستحق العبادة غيره ، ولا تنقصوا المكيال والميزان حين تبيعون لغيركم ما يُكال ويُوزن ، إني أراكم يرجى منكم الخير ، بالشكر والطاعة لله ، وإعطاء الناس حقوقهم كاملة ، وإني أخاف عليكم إذا لم تشكروا خيره وتطيعوا أمره ، أن يحل بكم عذاب يوم لا تستطيعون أن تفلتوا من أهواله ، لأنها تحيط بالمعذبين فيها فلا يجدون سبيلا إلى الخلاص منها .
قوله تعالى : { وإلى مدين } ، أي : وأرسلنا إلى ولد مدين ، { أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان } ، أي : لا تبخسوا ، وهم كانوا يطفقون مع شركهم ، { إني أراكم بخير } ، قال ابن عباس : موسرين في نعمة . وقال مجاهد : في خصب وسعة ، فحذرهم زوال النعمة ، وغلاء السعر ، وحلول النقمة ، إن لم يتوبوا . فقال : { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } ، يحيط بكم فيهلككم .
يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين - وهم قبيلة من العرب ، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام ، قريبًا من بلاد معان ، في بلد يعرف بهم ، يقال لها " مدين " فأرسل الله إليهم شعيبا ، وكان من أشرفهم{[14857]} نسبًا . ولهذا قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، وينهاهم عن التطفيف{[14858]} في المكيال والميزان { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } أي : في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله ، { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } {[14859]} أي : في الدار الآخرة .
التقدير : { وإلى مدين } أرسلنا { أخاهم شعيباً } ، واختلف في لفظة { مدين } فقيل : هي بقعة ، فالتقدير على هذا : وإلى أهل مدين - كما قال : { واسأل القرية }{[6466]} - وقيل كان هذا القطر في ناحية الشام ، وقيل { مدين } اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه ، و { مدين } لا ينصرف في الوجهين ، حكى النقاش أن { مدين } هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد وقد قيل : إن { شعيباً } عربي ، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط ، ودعاء «شعيب » إلى «عبادة الله » يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك بين من قولهم فيما بعد ، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم ، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر ، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة ، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام ، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافياً ويعطوا ناقصاً في وزنهم وكيلهم ، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك ، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضاً .
وقوله { بخير } قال ابن عباس : معناه في رخص من الأسعار ، و { عذاب اليوم المحيط } هو حلول الغلاء المهلك . وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق »{[6467]} وقيل لهم قوله : { بخير } عام في جميع نعم الله تعالى ، و { عذاب اليوم } هو الهلاك الذي حل بهم في آخر ، وجميع ما قيل في لفظ «خير » منحصر فيما قلناه .
ووصف «اليوم » ب «الإحاطة » وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم : وقد يصح أن يوصف «اليوم » ب «الإحاطة » على تقدير : محيط شره . ونحو هذا .
قوله : { وإلى مدين أخاهم شعيباً } إلى قوله { من إله غيره } نظير قوله : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } [ هود : 61 ] الخ .
أحدها : إصلاح الاعتقاد ، وهو من إصلاح العقول والفكر .
وثالثها : صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض .
ووسط بينهما الثاني : وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأنّ إقدامهم عليه كان فاشياً فيهم حتّى نسوا ما فيه من قبح وفساد ، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان .
فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم ، وهي خيانة المكيال والميزان . وقد تقدّم ذلك في سورة الأعراف . وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدْر ، لأن المكتال مسترسل مستسلم . ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيَال والميزان فعزّزه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما .
وجملة { إني أراكم بخير } تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان . والمقصود من { إني أراكم بخير } أنكم بخير . وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحقّ عليهم شكرها . والباء في { بخير } للملابسة .
والخير : حسن الحالة . ويطلق على المال كقوله : { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] . والأوْلى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي ، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة . وهذا التعليل يقتضي قبْح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه . وهذا حثّ على وسيلة بقاء النعمة .
ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذاباً يحل بهم إمّا يوم القيامة وإما في الدنيا . ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله : { عذاب يوم محيط } . وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان وَاهِبِهَا .
و { محيط } وصف ل { يوم } على وجه المجاز العقلي ، أي محيط عذابه ، والقرينة هي إضافة العذاب إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.