29- محمد رسول الله وأصحابه الذين معه أشداء أقوياء على الكفار ، متراحمون ، متعاطفون فيما بينهم ، تُبصرهم راكعين ساجدين كثيرا ، يرجون بذلك ثوابا عظيما من الله ورضوانا عميما ، علامتهم خشوع ظاهر في وجوههم من أثر الصلاة كثيرا ، ذلك هو وصفهم العظيم في التوراة ، وصفتهم في الإنجيل كصفة زرع أخرج أول ما ينشق عنه ، فآزره ، فتحول من الدقة إلى الغلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجب الزراع بقوته ، وكان المؤمنون كذلك ، ليغيظ الله بقوتهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة تمحو جميع ذنوبهم ، وثوابا بالغا غاية العظم .
قوله تعالى : { محمد رسول الله } تم الكلام ها هنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئاً : { والذين معه } قالوا وفيه " واو " فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ، { أشداء على الكفار } غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ، { رحماء بينهم } متعاطفون متوادون بعضهم لبعض ، كالولد مع الوالد ، { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( المائدة-54 ) { تراهم ركعاً سجداً } أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ، { يبتغون فضلاً من الله } أن يدخلهم الجنة ، { ورضواناً } أن يرضى عنهم ، { سيماهم } أي : علامتهم ، { في وجوههم من أثر السجود } اختلفوا في هذا السيما : فقال قوم : هم نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به . وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر . وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه . قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس . { ذلك } الذي ذكر ، { مثلهم } صفتهم { في التوراة } ها هنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : { ومثلهم } صفتهم ، { في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } قرأ ابن كثير ، وابن عامر : شطأه بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد فراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا فرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه . وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى . قوله : { فآزره } قرأ ابن عامر : فأزره بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ، { فاستغلظ } ذلك الزرع ، { فاستوى } أي : تم وتلاحق نباته وقام ، { على سوقه } أصوله ، { يعجب الزراع } أعجب ذلك زراعه . هذا مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون . قال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقيل : الزرع محمد الشطء : أصحابه والمؤمنون . وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : { محمد رسول الله والذين معه } : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، { أشداء على الكفار } عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، رحماء بينهم عثمان رضي الله عنه ، تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يبتغون فضلاً من الله بقية العشرة المبشرين بالجنة . وقيل : { كمثل زرع } محمد ، { أخرج شطأه } أبو بكر { فآزره } عمر { فاستغلظ } عثمان ، للإسلام { فاستوى على سوقه } علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، يعجب الزراع قال : هم المؤمنون . { ليغيظ بهم الكفار } قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سراً بعد اليوم .
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاءً ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا رجاء بن قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي في الجنة ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح ، في الجنة " .
حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد النعيمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم ، حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الخزاعي ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياءً عثمان ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " . ورواه معمر عن قتادة مرسلاً وفيه : " وأقضاهم علي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء : حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيه فقلت : أي الناس أحب إليك . قال : عائشة ، فقلت : من الرجال . فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، فعد رجالاً فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم " . أخبرنا أبو منصور عبد المالك ، وأبو الفتح نصر بن الحسين ، أنبأنا علي بن أحمد ابن منصور بن محمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قال : حدثنا أبو الحسن محمد ابن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سلمة ، عن أبي الزهراء ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدً ارتج وعليه محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أنبأنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : " عهد إلي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق " .
أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أنبأنا عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " . قوله عز وجل : { ليغيظ بهم الكفار } أي : إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين . قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
أنبأنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل ، أنبأنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .
حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أنبأنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أنبأنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعرياني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إسكاف ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوماً ينتحلون حبك يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " في إسناد هذا الحديث نظر . وقول الله عز وجل : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم لفظه على معنى الشطء { مغفرة وأجراً عظيماً } يعني الجنة والله اعلم .
يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه {[26994]} ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار ، رحيما برًا بالأخيار ، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر " {[26995]} ، وقال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه{[26996]} كلا الحديثين في الصحيح .
وقوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة {[26997]} الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، عز وجل ، والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة{[26998]} المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه ، تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني : السمت الحسن .
وقال مجاهد وغير واحد : يعني : الخشوع والتواضع .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي ، حدثنا حسين الجَعْفي ، عن زائدة{[26999]} ، عن منصور عن مجاهد : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال : الخشوع قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .
وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم .
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله {[27000]} صلى الله عليه وسلم : " من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " والصحيح أنه موقوف{[27001]} .
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه ، وفَلتَات لسانه .
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن سلمة بن كُهَيْل {[27002]} ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " ، العرزمي متروك {[27003]} .
وقال {[27004]} الإمام أحمد : حدثنا حسن بن {[27005]} موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما{[27006]} كان " {[27007]} .
وقال {[27008]} الإمام أحمد [ أيضا ] {[27009]} : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان : أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به{[27010]} .
فالصحابة [ رضي الله عنهم ]{[27011]} خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم .
وقال مالك ، رحمه الله : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون : " والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا " . وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة {[27012]} ؛ ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } {[27013]} أي : فراخه ، { فَآزَرَهُ } أي : شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي : شب وطال ، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة {[27014]} ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم .
ثم قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من " هذه لبيان الجنس ، { مَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم {[27015]} ، وقد فعل .
قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " {[27016]} .
وقوله تعالى : { محمد رسول الله } قال جمهور الناس : هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : و { الذين معه } ابتداء وخبره : { أشداء } و { رحماء } خبر ثان . وقال قوم من المتأولين : { محمد } «ابتداء » و : { رسول الله } صفة له { والذين } عطف عليه . و : { أشداء } خبر وهؤلاء بوصفهم ، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة .
قال القاضي أبو محمد : والأول عندي أرجح ، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله .
وقوله : { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية : ب { الذين معه } . و : { أشداء } جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين .
وقرأ الجمهور : «اشداءُ » «رحماءُ » بالرفع ، وروى قرة عن الحسن : «أشداءَ » رحماءَ «بنصبهما قال أبو حاتم : ذلك على الحال والخبر : { تراهم } . قال أبو الفتح : وإن شئت نصبت » أشداءَ «على المدح . وقوله : { تراهم ركعاً سجداً } ، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم . و : { يبتغون } معناه يطلبون . وقرأ عمر وابن عبيد : » ورُضواناً «بضم الراء .
وقوله : { سيماهم } معناه : علامتهم . واختلف الناس في تعيين هذه السيما ، فقال مالك بن أنس : كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب ، كان يبقى على المسح أثره ، وقاله عكرمة . وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية : هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً { من أثر السجود } .
قال القاضي أبو محمد : كما يجعل غرة من أثر الوضوء . . . . الحديث{[10432]} ، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله : { فضلاً من الله ورضواناً } كأنه قال : علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله : { فضلاً } . وقال ابن عباس : السمت الحسن : هو السيما ، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حالة مكثري الصلاة ، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية{[10433]} : السيما : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر . وقال منصور : سألت مجاهداً : أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ فقال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة . وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس{[10434]} : السيما : حسن يعتري وجوه المصلين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه ، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره ، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب : ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ){[10435]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد ، سمع شريك بن عبد الله{[10436]} يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع{[10437]} شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال : يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك .
وقرأ الأعرج : «من إثْر » بسكون الثاء وكسر الهمزة . قال أبو حاتم هما بمعنى . وقرأ قتادة : «من آثار » ، جمعاً .
وقوله تعالى : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية ، المثل هنا الوصف أو الصفة . وقال بعض المتأولين : التقدير الأمر { ذلك } وتم الكلام . ثم قال : { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : المعنى { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } وتم القول ، و : { كزرع } ابتداء تمثيل يختص بالقرآن . وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى : { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة } وتم القول ، ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال آخرون : المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل .
وقوله تعالى : { كزرع } ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل : فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء : وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، يقال : أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها ، وأشطأ الزرع : إذا أخرج شطأه{[10438]} .
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر : «شَطأ » بفتح الطاء والهمز دون مد ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، وقرأ عيسى بن عمر : «شطاه » بفتح الطاء دون همز{[10439]} ، وقرأ أبو جعفر : «شطه » رمى بالهمزة وفتح الطاء ، ورويت عن نافع وشيبة . وروي عن عيسى : «شطاءه » بالمد والهمز ، وقرأ الجحدري : «شطوه » بالواو . قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : الزرع : النبي صلى الله عليه وسلم ، { فآزره } . علي بن أبي طالب رضي الله عنه { فاستغلظ } بأبي بكر ، { فاستوى على سوقه } : بعمر بن الخطاب .
وقوله تعالى : { فآزره } وزنه : أفعله ، أبو الحسن ورجحه أبو علي . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : «فأزره » على وزن : فعله دون مد ، ولذلك كله معنيان : أحدهما ساواه طولاً ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بمحنية قد آزر الضال نبتها . . . بجر جيوش غانمين وخيب{[10440]}
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال ، فالفاعل على هذا المعنى : الشطء والمعنى الثاني : إن آزره وأزره بمعنى : أعانه وقواه ، مأخوذ ذلك من الأزر وشده ، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء ، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره «آزره » وزنه : فاعله ، والأول أصوب أن وزنه : أفعله ، ويدلك على ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]
لا مال إلا العطاف تؤزره . . . أم ثلاثين وابنة الجبل{[10441]}
وقرأ ابن كثير : «على سؤقه » بالهمز ، وهي لغة ضعيفة ، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [ جرير ] :
لحب المؤقِدان إلي مؤسي {[10442]} وجعدة إذا أضاءهما الوقود . . .
و : { يعجب الزراع } جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب { الزراع } ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل .
وقوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار } ، و { الكفار } هنا المشركون . قال الحسن : من غيظ الكفار قول عمر بمكة : لا عبد الله سراً بعد اليوم .
وقوله تعالى : { منهم } هي لبيان الجنس وليست للتبعيض{[10443]} ، لأنه وعد مرجٍّ للجميع .
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود } .
لما بيّن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه .
و { محمد } خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله : { رسوله } [ الفتح : 28 ] في الآية قبلها . وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره . قال التفتازاني في « المطول » « ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلاً : فتى من شأنه كذا وكذا ، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا » . ومن أمثلة « المفتاح » لذاك قوله : ( فراجعهما ) أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل : قوله
سأشكر عمراً إن تراخَتْ منيتــي *** أيــاديَ لم تُمنن وإنْ هيَ جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت{[388]}
وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمداً رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] إلى قوله : { ليظهره على الدين كله } [ الفتح : 28 ] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان : مَنْ هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار ؟ فيقال له : محمد رسول الله ، أي هو محمد رسول الله . وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم فتعتبر الجملةُ المحذوفُ مبتدؤها مستأنفةً استئنافاً بيانياً . وفيه وجوه أخر لا تخفى ، والأحسن منها هذا .
وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح « هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . وقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت » .
وقوله : { والذين معه } يجوز أن يكون مبتدأ و { أشداء } خبراً عنه وما بعده إخبار . والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى { معه } : المصاحَبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى : { وقال الله إني معكم } . والمراد : أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية .
وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عُرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله ، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب نادِ يا أصل السَّمُرة . ويجوز أن يكون { والذين معه } عطفاً على { رسولَه } من قوله : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ التوبة : 33 ] . والتقدير : وأرسل الذين معه ، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } [ يس : 14 ] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين ، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد .
فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى : { بعثنا عليكم عبادا لَنَا } وعلى هذا يكون { أرسلنا } في هذه الآية مستعملاً في حقيقته ومجازه .
و { أشداء } : جمع شديد ، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها ، قال تعالى في وصف النار { عليها ملائكة غلاظٌ شداد } [ التحريم : 6 ] .
والشدة على الكفار : هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم ، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيماناً من أجْل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذٍ أشد أشدّائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر . وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين : أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه . والله ورسوله أعلم .
ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال ، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة . والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى { بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] .
وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم . وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّةِ والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين } في سورة العقود ( 54 ) .
وفي تعليق رحماء } مع ظرف ( بين ) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم « تجد المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى »
والخطاب في { تراهم } لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم ، أي يراهم الرائي .
وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك ، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعاً سجداً . وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس ، وهي الصلوات مفروضُها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه . وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه .
والسيما : العلامة ، وتقدم عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في البقرة ( 273 ) وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود .
واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها { من أثر السجود } على ثلاثة أنحاء الأول : أنها أثر محسوس للسجود ، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود ، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة . فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك : السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وَكَف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان . وقال السعيد وعكرمة : الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل .
وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء .
وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب .
وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك . فقال الأعمش : مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار . وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان . وقال ابن عباس : هو حسن السمت . وقال مجاهد : هو نور من الخشوع والتواضع . وقال الحسن والضحاك : بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر . وإلى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضاً والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضاً وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب : أنها سِيما تكون لهم يوم القيامة ، وقالوا : هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله في قوله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] : النور يوم القيامة ، قيل وسنده حسن وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكر أعلاها .
وضمائر الغيبة في قوله : { تراهم } و { يبتغون } و { سيماهم في وجوههم } عائدة إلى { الذين معه } على الوجه الأول ، وإلى كل من { محمد رسول اللَّه والذين معه } على الوجه الثاني .
{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } .
الإشارة ب { ذلك } إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و { مثلهم } خبره .
والمَثل يطلق على الحالة العجيبة ، ويطلق على النظير ، أي المُشابه فإن كان هنا محمولاً على الحالة العجيبة فالمعنى : أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في « التوراة » . وقوله : { في التوراة } متعلق ب { مثلهم } أو حال منه . فيحتمل أن في « التوراة » وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات ، فبيّن الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في « التوراة » ، أي أن « التوراة » قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذي وقفنا عليه في « التوراة » مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من « سفر التثنية » من قول موسى عليه السلام : « جاء الربُ من سينا وأشرقَ لهم من سَعير وتلألأ من جبل فاران ، وأتى من ربوات القُدُس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحبّ الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك » فإن جبل فاران هو حِيال الحجاز . وقوله : « فأحب الشعب جميع قديسيه » يشير إليه قوله : { رحماءُ بينهم } [ الفتح : 29 ] ، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح وقوله : قديسيه يفيد معنى { تراهم رُكَّعا سُجَّدا } [ الفتح : 29 ] ومعنى { سِيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] . وقوله في « التوراة » « جالسون عند قدمك » يفيد معنى قوله تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضوانا } [ الحشر : 8 ] . ويكون قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوصف .
{ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع } .
ابتداء كلام مبتدأ . ويكون الوقف على قوله : { في التوراة } والتشبيه في قوله : { كزرع } خبره ، وهو المثَل . وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيراً إلى نحو قوله في « إنجيل متى » الإصحاح 13 فقرة 3 « هو ذا الزَارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السّلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته » إلى أن قال « وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين » . قال فقرة ، ثم قال : « وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم ، وهو الذي يأتي بثَمر فيصنع بعضٌ مائةً وبعضٌ ستين وآخر ثلاثين » . وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة .
وفي قوله : { أخرج شطأه } استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئاً من مكان .
والشطْءُ بهمزة في آخره وسكون الطاء : فراخ الزرع وفروع الحبّة .
ويقال : أشطأ الزرع ، إذا أخرج فروعا . وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز وقرأه ابن كثير { شَطأه } بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا .
و { آزره } قوّاه ، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتّزر به ويعينه شدهُ على العمل والحَمل كذا قيل . والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقاً اسمه من : آزر ، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر لا يصار إلى ادعائه إلا إذا تعين . وصيغة المفاعلة في { آزره } مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم : عافاك الله ، وقوله تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ] .
والضمير المرفوع في { آزره } للشطء ، والضمير المنصوب للزرع ، أي قوًى الشطء أصله .
وقرأ الجمهور { فآزره } . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر { فأزَّره } بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد .
ومعنى { استغلظ } غلظ غلظاً شديداً في نوعه ، فالسين والتاء للمبالغة مثل : استجاب . والضميران المرفوعان في { استغلظ } و { استوى } عائدان إلى الزرع .
والسُوق : جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زِنة فَعَل بفتحتين . وقراءة الجميع { على سوقه } بالواو بعد الضمة . وقال ابن عطية : قرأ ابن كثير { سُؤقه } بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهْمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر{[389]} :
وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسّرون ولم يذكرها في « حرز الأماني » وذكرها النوري في كتاب « غيث النفع » وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل .
وساق الزرع والشجرة : الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان . ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً وتقويه يوماً فيوماً حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه . وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل ، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل : أبي بكر وخديجة وعلي وبلال وعمّار ، والشطْء : من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع . وقوله : { يعجب الزراع } تحسين للمشبّه به ليفيد تحسين المشبه .
تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار .
قال القرطبي : قال أبو عروة الزبيري{[390]} : كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية { محمد رسول الله } إلى أن بلغ قوله : { ليغيظ بهم الكفار } فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
وقلت : رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه .
{ وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عظيما } .
أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين .
وقوله : { منهم } يجوز أن تكون ( من ) للبيان كقوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وهو استعمال كثير ، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر ( من ) تحذيراً وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين .