تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

الآية 29 وقوله تعالى : { محمد رسول الله } من الناس من احتجّ على تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية وبغيرها من الآيات ؛ يقول : لم يذكر محمدا صلى الله عليه وسلم في القرآن إلا وخاطبه باسم الرسالة والنبوة كقوله تعالى : { يا أيها النبي } [ الأنفال : 64 و . . . ] [ وقوله تعالى ]{[19614]} : { يا أيها الرسول } [ المائدة : 41 و . . . ] وقوله تعالى : { محمد رسول الله } [ الفتح : 29 ] ونحو ذلك ، وسائر الأنبياء عليهم السلام إنما خاطبهم بأسمائهم التي جُعلت لهم خلقةً دون ختم الرسالة والنبوّة كقوله تعالى : { يا نوح اهبط بسلام منا } [ هود : 48 ] و{ يا لوط } [ هود : 81 ] { يا هارون } [ طه : 92 ] و{ يا هود } [ هود : 53 ] و{ يا صالح } [ الأعراف : 77 و . . . ] .

جميع من ذكرهم [ سواء ، إنما ذكرهم ]{[19615]} بأسمائهم الموضوعة في أصل الخِلقة ، ولم يُحلّوا ، ولم يُسمّوا بأسماء الرسالة والنبوّة . ولذلك الفضل جعل له من بين غيره{[19616]} .

وكذلك يُحتجّ لتفضيل أمته وأصحابه على سائر الأمم حين{[19617]} خاطب هذه الأمة بأحسن الأسماء ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 104 و . . . ] وقال{[19618]} : { أيُّه المؤمنون } [ النور : 31 ] وقال في سائر الأمم : { يا بني آدم } [ الأعراف : 26 ] ونحو ذلك .

ومما يدل على فضيلتهم قوله تعالى : { كنتم خير أمة } الآية [ آل عمران : 110 ] أي كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة بما ذكر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { والذين معه أشداء على الكفار رُحماء بينهم } الآية . ما وصفهم ، ونعتهم ، يرجع إلى أصحابه على الاجتماع أي الكل موصوفون بهذه الصفات التي ذكر في الآية ، وإنها كلها فيهم ، وهو كقوله تعالى في وصفهم : { أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] أي أشداء على الكفار ، رُحماء على المؤمنين ، وصفهم بذلك جملة . فعلى ذلك ههنا .

ويحتم أن يكون ذلك وصف بعضهم دون بعض ، أو وصف عامّتهم . وأما الكل فلا .

ونجو ذلك ما روي عن روي عن عبد الله بن /520-بسعود رضي الله عنه حين{[19619]} قال : لولا قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } [ آل عمران : 152 ] ما كنا نعرف أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا . فإنما يكون ذلك وصف أمثال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

ثم قد جعل الله تعالى الرحمة والرّأفة نعتا للمؤمنين يرحم{[19620]} بعضهم بعضا . وكذلك رُوي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[19621]} قال : ( لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا ، قالوا : كلنا يرحم ولده ، فقال : ليس ذلك برحمة ، إنما الرحمة أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ولولده ) [ بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 8/187 ] ، أو كلام نحوه .

وروي عن النّعمان بن بشير [ أنه ]{[19622]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمنون كلهم كرجل واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى ) [ البخاري6011 ] .

ليس في ما وصفهم بالشدة على الكفار على أن ليس لهم شفقة عليهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم له شفقة عليهم حتى كادت تهلك نفسه . لذلك قال تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وقال : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] .

فعلى ذلك أصحابه ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .

ثم القتال الموضوع في ما بينهم رحمة في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر ، ليس برحمة ، لأنه وُضع ليضطرّهم ذلك إلى قبول الإسلام والتوحيد ، وفي قبولهم ذلك نجاتهم .

وأما وصفهم بالرحمة على المؤمنين ليس فيه أنهم ليسوا بأشداء عليهم إذا عاينوا منهم المناكير والفواحش حتى يتركوا التعيير عليهم ، بل الشفقة لهم عليهم ما يُعيّرون عليهم المُنكر ؛ إذ في ذلك نجاتهم ، وذلك لا يزيل عنهم الرحمة التي وصفهم بها ، بل ذلك من الشفقة لهم والرحمة ، والله أعلم .

ثم نعتهم ، وقال : { تراهم ركّعًا سُجّدًا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود } .

وقوله تعالى : { تراهم رُكّعا سُجّدا } يحتمل وجهين :

أحدهما : وصف لهم بالمداومة في إقامة الصلوات بالجماعات ، وأراد بالركوع والسجود الصلاة{[19623]} على طريق الكناية .

والثاني : عبارة عن الخضوع لربهم والتواضع للمؤمنين ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } يحتمل قوله : { يبتغون فضلا من الله } أي الجنة ، أي يبتغون بكل ما وصفهم من الرحمة والشدة والركوع والسجود الجنة . والفضل يُذكر عبارة عن الجنة في القرآن في غير موضع .

وجائز ما ذكر من ابتغائهم الفضل من الله تعالى ما يتعيّشون به .

وقال بعضهم : { يبتغون فضلا من الله } أي يبتغون ما يتعيّشون . وقال بعضهم : { يبتغون فضلا من الله } أي يبتغون معيشة يتقوّون بها على طاعة الله .

وقوله عز وجل : { ورضوانا } أي رضاه بهم ، وهو بمعنى الفضل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } اختُلف فيه : قال الحسن وغيره : أي أثر الخشوع والصلاة في وجوههم . قال بعضهم : إن الرجل إذا ما قام من الليل ، فأطال القيام والسّهر ، تبين أثر سهر الليل في وجهه إذا أصبح من الصفرة وتغيُّر اللون ، وذلك{[19624]} كله في الدنيا .

وكذلك رُوي عن الحسن ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله قوما يحسبهم الناس مرضى ، ولكنهم ليسوا بمرضى ) [ ابن المبارك في الزهد ص 31 ] .

قال الحسن : أجهدتهم العبادة . وقال قتادة : أثر الصلاة في وجوههم ، وهو أثر التراب . لكن ذلك بعيد .

وقال بعضهم : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } يوم القيامة ، وهو بياض وجوههم من أثر السجود والوضوء . وكذلك رُوي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إني أعرف أمتي من بين غيرها من الأمم ، قيل : وكيف تعرف يا رسول الله أمتك من بين الأمم ؟ فقال : أمتي غُرٌّ مُحجّلون يوم القيامة من أثر السجود ، ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم ) [ بنحوه أحمد 4/189 ] والله أعلم .

وجائز أن يكون على غير ذلك : يجعل الله تعالى في وجوههم من آثار العبادة له والجهد فيها من النور والحلاوة والحسن ما يُعرفون أنهم أهل عبادة الله تعالى وطاعته ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ذلك مَثلُهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } يحتمل وجوها :

أحدها : أي شبّههم في التوراة والإنجيل بالآحاد والإفراد ؛ فهُمُ{[19625]} المختارون من بين غيرهم الذين يعظّمونهم الأتباع والملوك ، ويحلّونهم ، فما بالكم لا تعظّمون أنتم هؤلاء ، ولا تتّبعونهم كأولئك ؟ والله أعلم .

والثاني : يحتمل { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } أي ذلك نعتهم ووصفهم في التوراة والإنجيل ، أي على ذلك نُعِتوا ، ووُصفوا ، في التوراة والإنجيل ، وقد عرفتم ذلك ، فهلاّ اتّبعتموهم إذا نُعتوا ، ووُصفوا ، في القرآن ؟

وقال بعضهم : قوله : { ذلك مثلهم في التوراة } مقطوع مقصور ، وهو ما تقدم من قوله : { والذين معه أشدّاء على الكفار } إلى قوله : { من أثر السجود } ثم ابتدأ ، فقال : { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه } الآية . وهذا يحتمل ، ووجه حسن .

وعلى التأويلين ما ذكرنا من وصفهم كأنه في التوراة والإنجيل جميعا ، ثم نعتهم أيضا بقوله : كزرع أخرج شطئه } والله أعلم .

ثم ذكر نعت أصحابه رضي الله عنهم ولم يذكر نعت رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر نعته في آية أخرى ، وهو قوله تعالى : { الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّيّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] ذكر نعته وصفته في الآية صلى الله عليه وسلم ونعت أصحابه رضي الله عنهم بهذه السورة ، والله أعلم .

ثم قوله عز وجل : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية دلالة الرسالة لأنه أخبر أن نعتهم في الكتب المتقدمة كما ذكر في القرآن .

ثم لم يقل أحد من أهل الكتب المتقدمة : أن ليس ذلك نعتهم أو شبههم في تلك الكتب : ثبت أنه بالله عرف ، ولا قوة إلا بالله .

ثم قوله تعالى : { كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه } الآية شبّههم بالزرع الذي ذكر ، والله أعلم ، لأنهم أحيوا سنن الدين لدين وشرائعه التي كانت من قبل بعد ما درست ، وانقطع أثرها ، لأنه لم يكن في ما بين عيسى ومحمد عليه السلام رسول ، فقد انقرض ذلك ، واندرس .

ثم جاء محمد عليه السلام بعد دروس ذلك وانقراضه كالزرع الذي يخرج وحده ، وهو النّبت الواحد في أول ما يخرُج ، فأعانه أصحابهن وآزروه ، كانوا كالوالية التي تنبُت حول الساق ، تُؤازر الخلقة والنّبت .

فأما { شطئه } فقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم خرج وحده كما خرج أول النّبت وحده .

وأما /521-أ/ الوالية التي نبتت حول الشطء ، فاجتمعت ، فهم المؤمنون ، كانوا في قلة كما كان أول الزرع دقيقا ، ثم زاد نبت الزرع ، فغلظ { فآزره استغلظ } كما آزر المؤمنون بعضهم بعضا حتى استغلظوا ، واستووا على أمرهم كما استغلظ هذا الزرع ، واستوى على سوقه .

ثم اختلفوا في الشّطء : قال أبو عوسجة : هو قصب الزرع ، أي صار له واسط الزرع ، أي صار [ له ]{[19626]} ورق { فآزره } أي قوّاه { سوقه } جمع ساق .

وقال أبو عبيدة : شطء الزرع : فراخه وصغاره ؛ يقال : قد أشطأ الزرع ، فهو مُشطئ إذا أفرخ .

وقال الفراء : { شطئه } سُنبله ؛ تُنبِت الحبة عشرا وتسعا وثمانيَ { فآزره } أي أعانه ، وقوّاه { فاستغلظ } أي غلظ { فاستوى على سوقه } جمع ساق ، ومنه يقال : قال كذا على سوقه ، إنما يُراد به تناهى ، وبلغ الغاية . يقول ، والله أعلم : كما أن الزرع إذا قام على السوق فقد استحكم ، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أي خرج وحده ، فأيّده بأصحابه ، فقوي ، واشتد ، كما قوّى الطاقة من الزرع بما يُنبت منها حتى غلظ ، وعظُمت ، واستحكمت ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { يعجب الزُّرّاع ليغيظ بهم الكفار } قال بعضهم : { الزُّرّاع } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، يعجب محمدا لما رأى من أصحابه والمؤمنين { ليغيظ بهم الكفار } ذلك من الغيظ ، وهو كقوله تعالى : { من كان يظن أن لن ينصُره الله في الدنيا والآخرة } إلى قوله تعالى : { هل يذهبن كيده ما يغيظ } [ الحج : 15 ] وقال بعضهم : { الزُّرّاع } [ هم أصحاب ]{[19627]} الزرع إذا كثُرت جوانبه ووالياته ، ونبتت{[19628]} { ليغيظ بهم الكفار } أي يغيظ ذلك سائر الزّراعين .

وقال بعضهم : كما يُعجب الزَّرّاع حسن زرعه حين يستوي{[19629]} قائما على ساقه ، فكذلك يغيظ الكفار كثرة المؤمنين واجتماعهم .

وقال بعضهم : هم الزُّرّاع ؛ سُمّوا كفارا لأنهم يكفرون ، أي يسترون البذر في الأرض ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } من بين غيرهم من الناس { مغفرة وأجرا عظيما } والله أعلم .

وفيه نقض قول الباطنية والروافض . لعنهم الله . لقولهم : إنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا ، وارتدّوا عن الإسلام جميعا ، أو كلاما{[19630]} نحوه .

في الآية ردّ لقولهم لأنه وعد لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم .

فلا يحتمل أن يكونوا على ما ذكر أولئك ، ثم تكون لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم .

فدلّ ما ذكر من الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم أنهم ثبتوا على ما كانوا من قبل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياته ، والله أعلم .

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطاهرين .


[19614]:في الأصل وم:.
[19615]:من م، ساقطة من الأصل.
[19616]:في الأصل وم: غيرهم.
[19617]:في الأصل وم: حيث.
[19618]:في الأصل وم: وقوله.
[19619]:في الأصل وم: حيث.
[19620]:في الأصل وم: يتراحم.
[19621]:ساقطة من الأصل وم.
[19622]:ساقطة من الأصل وم.
[19623]:أدرج قبلها في الأصل وم: هو.
[19624]:في الأصل وم: وكذلك.
[19625]:في الأصل وم: منهم.
[19626]:من م، ساقطة من الأصل.
[19627]:في الأصل وم: هو صاحب.
[19628]:في الأصل وم: وينبت.
[19629]:في الأصل وم: يستوي.
[19630]:في الأصل وم: كلام.