الآية 29 وقوله تعالى : { محمد رسول الله } من الناس من احتجّ على تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية وبغيرها من الآيات ؛ يقول : لم يذكر محمدا صلى الله عليه وسلم في القرآن إلا وخاطبه باسم الرسالة والنبوة كقوله تعالى : { يا أيها النبي } [ الأنفال : 64 و . . . ] [ وقوله تعالى ]{[19614]} : { يا أيها الرسول } [ المائدة : 41 و . . . ] وقوله تعالى : { محمد رسول الله } [ الفتح : 29 ] ونحو ذلك ، وسائر الأنبياء عليهم السلام إنما خاطبهم بأسمائهم التي جُعلت لهم خلقةً دون ختم الرسالة والنبوّة كقوله تعالى : { يا نوح اهبط بسلام منا } [ هود : 48 ] و{ يا لوط } [ هود : 81 ] { يا هارون } [ طه : 92 ] و{ يا هود } [ هود : 53 ] و{ يا صالح } [ الأعراف : 77 و . . . ] .
جميع من ذكرهم [ سواء ، إنما ذكرهم ]{[19615]} بأسمائهم الموضوعة في أصل الخِلقة ، ولم يُحلّوا ، ولم يُسمّوا بأسماء الرسالة والنبوّة . ولذلك الفضل جعل له من بين غيره{[19616]} .
وكذلك يُحتجّ لتفضيل أمته وأصحابه على سائر الأمم حين{[19617]} خاطب هذه الأمة بأحسن الأسماء ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 104 و . . . ] وقال{[19618]} : { أيُّه المؤمنون } [ النور : 31 ] وقال في سائر الأمم : { يا بني آدم } [ الأعراف : 26 ] ونحو ذلك .
ومما يدل على فضيلتهم قوله تعالى : { كنتم خير أمة } الآية [ آل عمران : 110 ] أي كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة بما ذكر ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { والذين معه أشداء على الكفار رُحماء بينهم } الآية . ما وصفهم ، ونعتهم ، يرجع إلى أصحابه على الاجتماع أي الكل موصوفون بهذه الصفات التي ذكر في الآية ، وإنها كلها فيهم ، وهو كقوله تعالى في وصفهم : { أذلّة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] أي أشداء على الكفار ، رُحماء على المؤمنين ، وصفهم بذلك جملة . فعلى ذلك ههنا .
ويحتم أن يكون ذلك وصف بعضهم دون بعض ، أو وصف عامّتهم . وأما الكل فلا .
ونجو ذلك ما روي عن روي عن عبد الله بن /520-بسعود رضي الله عنه حين{[19619]} قال : لولا قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } [ آل عمران : 152 ] ما كنا نعرف أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا . فإنما يكون ذلك وصف أمثال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
ثم قد جعل الله تعالى الرحمة والرّأفة نعتا للمؤمنين يرحم{[19620]} بعضهم بعضا . وكذلك رُوي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[19621]} قال : ( لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا ، قالوا : كلنا يرحم ولده ، فقال : ليس ذلك برحمة ، إنما الرحمة أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ولولده ) [ بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 8/187 ] ، أو كلام نحوه .
وروي عن النّعمان بن بشير [ أنه ]{[19622]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمنون كلهم كرجل واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى ) [ البخاري6011 ] .
ليس في ما وصفهم بالشدة على الكفار على أن ليس لهم شفقة عليهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم له شفقة عليهم حتى كادت تهلك نفسه . لذلك قال تعالى : { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وقال : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] .
فعلى ذلك أصحابه ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
ثم القتال الموضوع في ما بينهم رحمة في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر ، ليس برحمة ، لأنه وُضع ليضطرّهم ذلك إلى قبول الإسلام والتوحيد ، وفي قبولهم ذلك نجاتهم .
وأما وصفهم بالرحمة على المؤمنين ليس فيه أنهم ليسوا بأشداء عليهم إذا عاينوا منهم المناكير والفواحش حتى يتركوا التعيير عليهم ، بل الشفقة لهم عليهم ما يُعيّرون عليهم المُنكر ؛ إذ في ذلك نجاتهم ، وذلك لا يزيل عنهم الرحمة التي وصفهم بها ، بل ذلك من الشفقة لهم والرحمة ، والله أعلم .
ثم نعتهم ، وقال : { تراهم ركّعًا سُجّدًا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود } .
وقوله تعالى : { تراهم رُكّعا سُجّدا } يحتمل وجهين :
أحدهما : وصف لهم بالمداومة في إقامة الصلوات بالجماعات ، وأراد بالركوع والسجود الصلاة{[19623]} على طريق الكناية .
والثاني : عبارة عن الخضوع لربهم والتواضع للمؤمنين ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } يحتمل قوله : { يبتغون فضلا من الله } أي الجنة ، أي يبتغون بكل ما وصفهم من الرحمة والشدة والركوع والسجود الجنة . والفضل يُذكر عبارة عن الجنة في القرآن في غير موضع .
وجائز ما ذكر من ابتغائهم الفضل من الله تعالى ما يتعيّشون به .
وقال بعضهم : { يبتغون فضلا من الله } أي يبتغون ما يتعيّشون . وقال بعضهم : { يبتغون فضلا من الله } أي يبتغون معيشة يتقوّون بها على طاعة الله .
وقوله عز وجل : { ورضوانا } أي رضاه بهم ، وهو بمعنى الفضل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } اختُلف فيه : قال الحسن وغيره : أي أثر الخشوع والصلاة في وجوههم . قال بعضهم : إن الرجل إذا ما قام من الليل ، فأطال القيام والسّهر ، تبين أثر سهر الليل في وجهه إذا أصبح من الصفرة وتغيُّر اللون ، وذلك{[19624]} كله في الدنيا .
وكذلك رُوي عن الحسن ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله قوما يحسبهم الناس مرضى ، ولكنهم ليسوا بمرضى ) [ ابن المبارك في الزهد ص 31 ] .
قال الحسن : أجهدتهم العبادة . وقال قتادة : أثر الصلاة في وجوههم ، وهو أثر التراب . لكن ذلك بعيد .
وقال بعضهم : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } يوم القيامة ، وهو بياض وجوههم من أثر السجود والوضوء . وكذلك رُوي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ إني أعرف أمتي من بين غيرها من الأمم ، قيل : وكيف تعرف يا رسول الله أمتك من بين الأمم ؟ فقال : أمتي غُرٌّ مُحجّلون يوم القيامة من أثر السجود ، ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم ) [ بنحوه أحمد 4/189 ] والله أعلم .
وجائز أن يكون على غير ذلك : يجعل الله تعالى في وجوههم من آثار العبادة له والجهد فيها من النور والحلاوة والحسن ما يُعرفون أنهم أهل عبادة الله تعالى وطاعته ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ذلك مَثلُهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } يحتمل وجوها :
أحدها : أي شبّههم في التوراة والإنجيل بالآحاد والإفراد ؛ فهُمُ{[19625]} المختارون من بين غيرهم الذين يعظّمونهم الأتباع والملوك ، ويحلّونهم ، فما بالكم لا تعظّمون أنتم هؤلاء ، ولا تتّبعونهم كأولئك ؟ والله أعلم .
والثاني : يحتمل { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } أي ذلك نعتهم ووصفهم في التوراة والإنجيل ، أي على ذلك نُعِتوا ، ووُصفوا ، في التوراة والإنجيل ، وقد عرفتم ذلك ، فهلاّ اتّبعتموهم إذا نُعتوا ، ووُصفوا ، في القرآن ؟
وقال بعضهم : قوله : { ذلك مثلهم في التوراة } مقطوع مقصور ، وهو ما تقدم من قوله : { والذين معه أشدّاء على الكفار } إلى قوله : { من أثر السجود } ثم ابتدأ ، فقال : { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه } الآية . وهذا يحتمل ، ووجه حسن .
وعلى التأويلين ما ذكرنا من وصفهم كأنه في التوراة والإنجيل جميعا ، ثم نعتهم أيضا بقوله : كزرع أخرج شطئه } والله أعلم .
ثم ذكر نعت أصحابه رضي الله عنهم ولم يذكر نعت رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر نعته في آية أخرى ، وهو قوله تعالى : { الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّيّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] ذكر نعته وصفته في الآية صلى الله عليه وسلم ونعت أصحابه رضي الله عنهم بهذه السورة ، والله أعلم .
ثم قوله عز وجل : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية دلالة الرسالة لأنه أخبر أن نعتهم في الكتب المتقدمة كما ذكر في القرآن .
ثم لم يقل أحد من أهل الكتب المتقدمة : أن ليس ذلك نعتهم أو شبههم في تلك الكتب : ثبت أنه بالله عرف ، ولا قوة إلا بالله .
ثم قوله تعالى : { كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه } الآية شبّههم بالزرع الذي ذكر ، والله أعلم ، لأنهم أحيوا سنن الدين لدين وشرائعه التي كانت من قبل بعد ما درست ، وانقطع أثرها ، لأنه لم يكن في ما بين عيسى ومحمد عليه السلام رسول ، فقد انقرض ذلك ، واندرس .
ثم جاء محمد عليه السلام بعد دروس ذلك وانقراضه كالزرع الذي يخرج وحده ، وهو النّبت الواحد في أول ما يخرُج ، فأعانه أصحابهن وآزروه ، كانوا كالوالية التي تنبُت حول الساق ، تُؤازر الخلقة والنّبت .
فأما { شطئه } فقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم خرج وحده كما خرج أول النّبت وحده .
وأما /521-أ/ الوالية التي نبتت حول الشطء ، فاجتمعت ، فهم المؤمنون ، كانوا في قلة كما كان أول الزرع دقيقا ، ثم زاد نبت الزرع ، فغلظ { فآزره استغلظ } كما آزر المؤمنون بعضهم بعضا حتى استغلظوا ، واستووا على أمرهم كما استغلظ هذا الزرع ، واستوى على سوقه .
ثم اختلفوا في الشّطء : قال أبو عوسجة : هو قصب الزرع ، أي صار له واسط الزرع ، أي صار [ له ]{[19626]} ورق { فآزره } أي قوّاه { سوقه } جمع ساق .
وقال أبو عبيدة : شطء الزرع : فراخه وصغاره ؛ يقال : قد أشطأ الزرع ، فهو مُشطئ إذا أفرخ .
وقال الفراء : { شطئه } سُنبله ؛ تُنبِت الحبة عشرا وتسعا وثمانيَ { فآزره } أي أعانه ، وقوّاه { فاستغلظ } أي غلظ { فاستوى على سوقه } جمع ساق ، ومنه يقال : قال كذا على سوقه ، إنما يُراد به تناهى ، وبلغ الغاية . يقول ، والله أعلم : كما أن الزرع إذا قام على السوق فقد استحكم ، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أي خرج وحده ، فأيّده بأصحابه ، فقوي ، واشتد ، كما قوّى الطاقة من الزرع بما يُنبت منها حتى غلظ ، وعظُمت ، واستحكمت ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { يعجب الزُّرّاع ليغيظ بهم الكفار } قال بعضهم : { الزُّرّاع } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، يعجب محمدا لما رأى من أصحابه والمؤمنين { ليغيظ بهم الكفار } ذلك من الغيظ ، وهو كقوله تعالى : { من كان يظن أن لن ينصُره الله في الدنيا والآخرة } إلى قوله تعالى : { هل يذهبن كيده ما يغيظ } [ الحج : 15 ] وقال بعضهم : { الزُّرّاع } [ هم أصحاب ]{[19627]} الزرع إذا كثُرت جوانبه ووالياته ، ونبتت{[19628]} { ليغيظ بهم الكفار } أي يغيظ ذلك سائر الزّراعين .
وقال بعضهم : كما يُعجب الزَّرّاع حسن زرعه حين يستوي{[19629]} قائما على ساقه ، فكذلك يغيظ الكفار كثرة المؤمنين واجتماعهم .
وقال بعضهم : هم الزُّرّاع ؛ سُمّوا كفارا لأنهم يكفرون ، أي يسترون البذر في الأرض ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } من بين غيرهم من الناس { مغفرة وأجرا عظيما } والله أعلم .
وفيه نقض قول الباطنية والروافض . لعنهم الله . لقولهم : إنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا ، وارتدّوا عن الإسلام جميعا ، أو كلاما{[19630]} نحوه .
في الآية ردّ لقولهم لأنه وعد لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم .
فلا يحتمل أن يكونوا على ما ذكر أولئك ، ثم تكون لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم .
فدلّ ما ذكر من الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم أنهم ثبتوا على ما كانوا من قبل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياته ، والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطاهرين .