فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا} (29)

{ محمد رسول الله } الجملة مبينة لما هو من جملة المشهود به { والذين معه } من المؤمنين ، وقيل : هم أصحاب الحديبية ، والأولى الحمل على العموم { أشداء على الكفار } أي غلاظ عليهم ، كما يغلظ الأسد على فريسته ، وهو جمع شديد لا تأخذهم بهم رأفة ، لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم ، فلا يرحمونهم { رحماء بينهم } أي متوادون متعاطفون ، كالوالد مع الولد ، وهو جمع رحيم والمعنى أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة ، ولمن وافقهم الرحمة والرأفة ، ونحوه قوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } .

قال الحسن : بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم وتمسها ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وتلزق بها ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه ، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل ، وهذا التعطف ، فيشددوا على من ليس من دينهم ، ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام ، متعطفين بالبر والصلة وكف الأذى والاحتمال منهم ، قرأ الجمهور برفع أشداء ورحماء على أنه خبر للموصول ، وقرئ بنصبهما على الحال ، أو على المدح ، ويكون الخبر على هذه القراءة قوله : { تراهم ركعا سجدا } أي تشاهدهم وتبصرهم حال كونهم راكعين ساجدين ، أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها .

{ يبتغون فضلا من الله ورضوانا } أي : يطلبون ثواب الله لهم ، ورضاه عنهم ، وفيه لطيفة أن المخلص بعمله لله يطلب أجره من الله ، والمرائي بعمله لا ينبغي له أجر ، وذكر بعضهم في الآية والذين معه أبا بكر الصديق أشداء على الكفار عمر بن الخطاب ، رحماء بينهم عثمان بن عفان ، تراهم ركعا سجدا علي بن أبي طالب ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا بقية الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين .

{ سيماهم في وجوههم من أثر السجود } السيما : العلامة ، وفيها لغتان المد والقصر ، أي : يظهر علامتهم في جبابهم من أثر السجود في الصلاة لكثرة التعبد بالليل والنهار ، وقال الضحاك : إذا سهر الرجل أصبح مصفرا فجعل هذا هو السيما ، وقال الزهري : مواضع السجود أشد وجوههم بياضا ، وقال مجاهد : هو الخشوع والتواضع وبالأول- أعني كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود- قال سعيد بن جبير ومالك ، وقال ابن جريج : هو الوقار وقال الحسن : إذا رأيتهم رأيتهم مرضى وما هم بمرضى ، وقيل : هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه ، وبه قال سفيان الثوري ، قال ابن عباس : أما إنه ليس الذي ترونه ، ولكنه سيما الإسلام وسمته وخشوعه ، وعنه قال : هو السمت الحسن .

وعن أبي بن كعب قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : سيماهم الخ النور يوم القيامة " أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير ، وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند حسن .

وعن ابن عباس قال : " بياض يغشى وجوههم يوم القيامة " ، قال عطاء الخرساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس ، قال البقاعي ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإن ذلك من سيماء الخوارج .

وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود " ، ذكره الخطيب ولينظر في سنده .

{ ذلك } أي ما تقدم من هذه الصفات الجليلة { مثلهم } أي وصفهم العجيب الشأن الذي وصفوا به { في التوراة } { ومثلهم } أي وصفهم الذي وصفوا به { في الإنجيل } تكرير ذكر المثل لزيادة تقريره ، وللتنبيه على غرابته ، وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة ، قال ابن عباس : أي نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله السماوات والأرض .

{ كزرع أخرج شطأه } كلام مستأنف ، أي هم كزرع ، وقيل : هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدم من الأوصاف ، وقيل هو خبر لقوله مثلهم في الإنجيل ، أي : ومثلهم في الإنجيل كزرع قال الفراء : فيه وجهان .

إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ، يعني كمثلهم في القرآن فيكون الوقف على الإنجيل .

وإن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ثم تبتدي ومثلهم في الإنجيل كزرع ، قرأ الجمهور شطأه بسكون الطاء وقرئ بفتحها وهم سبعيتان وقرئ شطاه كعصاه . وقرئ شطه بغير همز ، وكلها لغات قال الأخفش والكسائي :

شطأه أي طرفه قال الفراء : شطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج قال الزجاج : أخرج شطأه أي نباته وقال قطرب : الشطء سوي السنبل ، وعن الفراء : هو السنبل وقال الجوهري : شطء الزرع والنبات فراخه والجمع أشطاء ، وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه وقال أنس : نباته فروخه .

{ فآزره } أي قواه وشده وأعانه وقيل إن المعنى أن الشطء قوى الزرع قاله السمين وقيل : إن الزرع قوى الشطء وبه قال النسفي وهو أنسب فإن العادة أن الأصل يتقوى بفروعه فهي تعينه وتقويه قرأ الجمهور فآزره بالمد وقرئ بالقصر وهما سبعيتان قال الفراء : أزرت فلانا أزره أزرا إذا قويته { فاستغلظ } أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان دقيقا فهو من باب استحجر الطين ، أو المراد المبالغة في الغلظة كما في استعصم ونحوه وإيثار الأول لأن بناء الساق على التدرج .

{ فاستوى على سوقه } أي فاستقام على أعواده والسوق جمع ساق وقرئ سؤقه بالهمزة الساكنة { يعجب الزراع } أي يعجب هذا الزرع زراعه لقوته وحسن منظره وهنا تم المثل قاله السمين ( قلت ) وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم يكونون في الابتداء قليلا ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع فإنه يكون في الابتداء ضعيفا ثم يقوي حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه قال قتادة مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب فيه ، أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع . يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعلي ، وهذا نحوه ما تقدم ليس بتفسير للقرآن بل من لطائف الكلام .

وعن بعض الصحابة أنه لما قرأ هذه الآية قال : تم الزرع وقد دنا حصده ، قلت : وهذا المثل الذي أشار إليه القرآن موجود في إنجيل متى ولوقا وترجمته بالعربية انظروا إلى زارع خرج للزرع ، وبينما هو يزرع سقط بعض البذر في الطريق فجاءت الطيور ولقطته وسقط بعضه على الصخر حيث لم يكن التراب كثيرا ، وفي ساعته نبت لأنه لم يكن له في الأرض عمق ، ولما طلعت الشمس احترق ويبس لأنه لم يكن له أصل وسقط بعضه في الشوك فنما الشوك وخنقه وسقط بعضه في الأرض الطيبة وأثمر بعضه مائة ضعف وبعضه ستين وبعضه ثلاثين ، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع انتهى .

وهذا هو معنى الآية الكريمة بعينه وهذا في بعض أمثالهم في الإنجيل وقد غفل عنه النصارى وأولوه بتأويل ضعيف وقالوا : إن هذا المثل فيمن يعمل الخير ويسمع المواعظ وجعلوه من التهذيب ، ولم يفكروا في قوله : فمن كانت له أذن سامعة فليستمع فإن فيه من الكناية ما لا يوجد في غيره ، وذلك أن الذين أصفهم لكم في مثل هذا ليسوا بحاضرين حتى تستطيعوا أن تروهم . لكنكم اسمعوا كلامي هذا إن كانت لكم أذن واعية ، وحدثوا به وأودعوه صفحات الكتب حتى يبلغ الكلام أجله .

وقوله سقط بعضه على الطريق الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي الفلاسفة اليونانيين ، الذين قلوبهم لا قابلية لها ، أن تكون ظرفا لمفهوم النواميس ، لأن النواميس لم تصدر عن المبدئ جل اسمه إلا على سبيل السذاجة ، فلا تؤثر في قلوبهم ، لأنها لا تستقيم فيها ، فيأتي الشيطان ويخطفها من قلوبهم بشبهاته السفسطية ، وقوله سقط بعضه على الصخرة الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي اليهود ، لأن قلوبهم كانت أقسى من الصخرة في قبولها ، فلم تكن قابلة لأخذها ، بل كانوا يتفوهون بها إلى مدة يسيرة ، وهي تحولها من أيديهم إلى أيدي النصارى ، وذلك هو طلوع الشمس فلما لم يذعنوا لما آتاهم به عيسى زال ما كان قد ألقي إليهم من ذلك من قلوبهم ، واضمحل ، كما يزول النبت المزروع على الصخرة بحرارة الشمس .

وقوله وبعضه وقع في الشوك الخ إشارة إلى النواميس التي وقعت في أيدي النصارى ، والشوك عبارة عن مشتبهات الأمور التي كانت تصدر عن عيسى عليه السلام ، كإحياء الميت وإشفاء المريض وإعادة بصر الأكمة وسمع الأصم ونطق الأبكم التي هي من خوارق العادة ، ونمو الشوك إزدياد هذه الأمور واختناقها زوال الإعتقاد بموضوعاتها ، قوله : وسقط بعضه في الأرض الطيبة الخ برهان قاطع ، ودليل لامع ساطع على النواميس التي وقعت في أيدي العرب على معرفة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، لأن قلوبهم كانت ساذجة لائقة أن تكون لها ظرفا .

قوله :وأثمر ، المراد بمطلق الإثمار أبو بكر ، بعضه مائة ضعف عمر ، وبعضه ستون عثمان ، وبعضه ثلاثون علي ، ونسبة الإثمار إلى أبي بكر لاستقلال الخلافة في أيامه ، ونسبة مائة إلى عمر لنمو الإسلام في عهده ، ونسبة ستين إلى عثمان لإنخفاض ضعف ذلك النمو ، الذي حصل في أيام عمر ، ونسبة ثلاثين إلى علي لأنه هو آخر الخلفاء وخاتمهم .

ومصداق لقوله صلى الله عليه وسلم : " الخلافة بعدي ثلاثون عاما " {[1516]} ، وفيه مطابقة مع ما روي عن عكرمة في قوله :أخرجه زرعه بأبي بكر فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي ، وقد تقدم .

وتكرره في لوقا ضرب من لطيف التأكيد ، فإن قيل : لم لا يحمل على ما حمله عليه النصاري ، فيكون المراد بالزراع عمل الخير ، وبالإثمار مطلق الجزاء ، قلت إنه لا يجوز الحمل على هذا المعنى لوجوه :

الأول : أنا قد وجدنا ذلك في القرآن والمطابقة لازمة .

والثاني : أن التعريف يفيد العهد ، والعهد يفيد التخصيص والتخصيص يباين العموم فيفيد ما ذكرته فلا يفيد ذلك وهذا برهان مقنع لمن كانت له أذن واعية من النصارى والمسلمين . ويجوز أن يراد بالزراع الشارع صلى الله عليه وسلم ، وبالأرض الأمة ، وبالبذر الإيمان ، على حسب مراتب المؤمنين ، وبالنوع الأخير خيار الأمة على حسب مراتبهم ثم ذكر سبحانه علة تكثيره لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتقويته لهم وتشبيههم بالزرع فقال :

{ ليغيظ بهم الكفار } أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكفار واللام المتعلقة بمحذوف ، أي فعل ذلك ليغيظ قيل : هو قول عمر بن الخطاب لأهل مكة بعدما أسلم : لا يعبد الله سرا بعد اليوم ، وقال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص والعموم ، ليس هذا محل بسطها .

{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } أي وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر ذنوبهم ، ويجزل أجرهم ، بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة ، وأعظم منة ، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض وهذه الآية ترد قول الروافض أنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون لو أن ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته صلى الله عليه وسلم ، قال الجلال المحلي : وهما أي المغفرة والأجر لمن بعدهم أيضا في آيات أي بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، كقوله تعالى : سابقوا إلى مغفرة من ربكم إلى قوله أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ونحو ذلك من الآيات .

ختام السورة:

{ خاتمة } قد جمعت هذه الآية وهي : { محمد رسول الله } إلى آخر السورة جميع حروف المعجم ، وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشارة التصريحية باجتماع أمرهم ، وعلو نصرهم ، رضي الله تعالى عنهم وحشرنا معهم وهذا من لطائف النظم القرآني ، وهذا آخر القسم الأول من القرآن وهو المطول وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم وحاصلهما الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرا ، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطنا .


[1516]:مسلم.