قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } قال سعيد بن جبير ومجاهد : الزبور جميع الكتب المنزلة ، والذكر أم الكتاب الذي عنده ، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ . وقال ابن عباس والضحاك : الزبور التوراة والذكر للكتب المنزلة من بعد التوراة . وقال الشعبي : الزبور كتاب داود ، والذكر التوراة . وقيل : الزبور زبور داود والذكر : القرآن ، وبعد بمعنى قبل ، كقوله تعالى : { وكان وراءهم ملك }أي : أمامهم ، { والأرض بعد ذلك دحاها } قبله ، { إن الأرض } يعني أرض الجنة ، { يرثها عبادي الصالحون } قال مجاهد : يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض } وقال ابن عباس : أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من الله بإظهار الدين وإعزاز المسلمين . وقيل : أراد بالأرض الأرض المقدسة .
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين ، من السعادة في الدنيا والآخرة ، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] . وقال : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [ غافر : 51 ] . وقال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ] {[19923]} } ، الآية [ النور : 55 ] . وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } ، قال الأعمش : سألت سعيد بن جُبَير عن قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } فقال الزبور : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن{[19924]} .
وقال مجاهد : الزبور : الكتاب .
وقال ابن عباس ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد : الزبور : الذي أنزل على داود ، والذكر : التوراة ، وعن ابن عباس : الزبور : القرآن .
وقال سعيد بن جُبَير : الذكر : الذي في السماء .
وقال مجاهد : الزبور : الكتبُ بعد الذكر ، والذكر : أمّ الكتاب عند الله .
واختار ذلك ابن جرير رحمه الله{[19925]} ، وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول . وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور : الكتب التي نزلت على الأنبياء ، والذكر : أم الكتاب الذي{[19926]} يكتب فيه الأشياء قبل ذلك .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه{[19927]} في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض ، أن يُورثَ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة ، وهم الصالحون .
وقال مجاهد ، عن ابن عباس : { أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } قال : أرض الجنة . وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والشعبي ، وقتادة ، والسدي ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، والثوري [ رحمهم الله تعالى ]{[19928]}
{ ولقد كتبنا في الزبور } في كتاب داود عليه السلام . { من بعد الذكر } أي التوراة ، وقيل المراد ب { الزبور } جنس الكتب المنزل وب { الذكر } اللوح المحفوظ . { أن الأرض } أي أرض الجنة أو الأرض المقدسة . { يرثها عبادي الصالحون } يعني عامة المؤمنين أو الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقالت فرقة { الزبور } اسم يعم جميع الكتب المنزلة لأنه مأخوذ من زبرت الكتاب اذا كتبته ، قالت هذه الفرقة و { الذكر } أراد به اللوح المحفوظ ، وقال بعضهم { الذكر } الذي في السماء ، وقالت فرقة { الزبور } هو اسم زبور داود ، و { الذكر } أراد به التوارة ، وقالت فرقة { الزبور } ما بعد التوارة من الكتب ، و { الذكر } التوراة ، وقرأ حمزة وحده «الزُّبور » بضم الزاي ، وقالت فرقة { الأرض } أراد بها أرض الدنيا أي كل ما يناله المؤمنون من الأرض ، وقالت فرقة أراد أرض الجنة ، واستشهدت بقوله تعالى { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[2]} [ الزمر : 74 ] وقالت فرقة إنما أراد بهذه الآية الإخبار عما كان صنعه مع بني إسرائيل أي فاعلموا أنا كما وفينا لهم بما وعدناهم فكذلك ننجز لكم ما وعدناكم من النصرة .
إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في [ سورة الزمر : 7374 ] { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً إلى قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة . ولها ارتباط بقوله تعالى : { أفلا ترون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الأنبياء : 44 ] .
وإن كان المراد أرضاً من الدنيا ، أي مَصيرَها بيدِ عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لَقُوا فيها الأذَى ، وهي أرض مكة وما حولها ، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .
على أن في إطلاق اسم الأرض ما يصلح لإرادة أن سلطان العالم سيكون بيد المسلمين ما استقاموا على الإيمان والصلاح . وقد صدق الله وعده في الحالين وعلى الاحتمالين . وفي حديث أبي داوود والترمذي عن ثَوبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إنّ الله زوَى لي الأرض فرأيت مشارقَها ومغاربَها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها » . وقرأ الجمهور { في الزبور } بصيغة الإفراد وهو اسم للمزبور ، أي المكتوب ، فعول بمعنى مفعول ، مثل : ناقة حَلوب ورَكوب . وقرأ حمزة بصيغة الجمع { زُبور بوزن فعول جمع زِبْر بكسر فسكون أي مزبور ، فوزنه مثل قِشر وقُشور ، أي في الكتب .
فعلى قراءة الجمهور فو غالب في الإطلاق على كتاب داوود قال تعالى : { وآتينا داوود زبوراً } في [ سورة النساء : 163 ] وفي [ سورة الإسراء : 55 ] ، فيكون تخصيص هذا الوعد بكتاب داوود لأنه لم يذكر وعْد عامّ للصالحين بهذا الإرث في الكتب السماوية قبله . وما ورد في التوراة فيما حكاه القرآن من قول موسى عليه السلام : { إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده } [ الأعراف : 128 ] فذلك خاص بأرض المقدس وببني إسرائيل .
والزبور : كتاب داوود وهو مبثوث في الكتاب المسمى بالمزامير من كتب اليهود . ولم أذكر الآن الجملة التي تضمنت هذا الوعد في المزامير . ووجدت في محاضرة للإيطالي المستعرب ( فويدو ) أن نص هذا الوعد من الزبور باللغة العبرية هكذا : صديقين يرشون أرص بشين معجمة في يرشون وبصاد مهملة في أرص ، أي الصديقون يرثون الأرض . والمقصود : الشهادة على هذا الوعد من الكتب السالفة وذلك قبل أن يجيء مِثل هذا الوعد في القرآن في [ سورة النور : 55 ] في قوله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } وعلى قراءة حمزة أن هذا الوعد تكرر في الكتب لِفِرق من العباد الصالحين .
ومعنى { من بعد الذكر } أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة .
فبعد أن ألقيت إليهم الأوامر وُعِدوا بميراث الأرض ، وقيل المراد ب { الذكر } كتاب الشريعة وهو التوراة .
قال تعالى : { ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين } [ الأنبياء : 48 ] فيكون الظرف في قوله تعالى : { من بعد الذكر } مستقرّاً في موضع الحال من الزبور . والمقصود من هذه الحال الإيماء إلى أن الوعد المتحدّث عنه هنا هو غير ما وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى من إعطائهم الأرض المقدسة . وهو الوعد الذي ذكر في قوله تعالى حكاية عن موسى : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [ المائدة : 21 ] ، وأنه غير الإرث الذي أورثه الله بني إسرائيل من المُلك والسلطان لأن ذلك وعد كان قبل داوود . فإن مُلك داوود أحد مظاهره . بل المراد الإيماء إلى أنه وعد وعده الله قوماً صالحين بعد بني إسرائيل وليسوا إلا المسلمين الذين صدقَهم الله وعده فملكوا الأرض ببركة رسولهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه واتسع ملكهم وعظم سلطانهم حسب ما أنبأ به نبيئهم صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم آنفاً .