مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّـٰلِحُونَ} (105)

أما قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة بضم الزاي والباقون بفتحها يعني الزبور كالحلوب والركوب يقال : زبرت الكتاب أي كتبته والزبور بضم الزاي جمع زبر كقشر وقشور ، ومعنى القراءتين واحد لأن الزبر هو الكتاب .

المسألة الثانية : في الزبور والذكر وجوه : أحدها : وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد الزبور هو الكتب المنزلة والذكر الكتاب الذي هو أم الكتاب في السماء ، لأن فيها كتابة كل ما سيكون اعتبارا للملائكة وكتب الأنبياء عليهم السلام من ذلك الكتاب تنسخ . وثانيها : الزبور هو القرآن والذكر هو التوراة وهو قول قتادة والشعبي . وثالثها : الزبور زبور داود عليه السلام ، والذكر هو الذي يروي عنه عليه السلام ، قال : كان الله تعالى ولم يكن معه شيء ، ثم خلق الذكر . وعندي فيه وجه رابع : وهو أن المراد بالذكر العلم أي كتبنا ذلك في الزبور بعد أن كنا عالمين علما لا يجوز السهو والنسيان علينا ، فإن من كتب شيئا والتزمه ولكنه يجوز السهو عليه فإنه لا يعتمد عليه ، أما من لم يجز عليه السهو والخلف فإذا التزم شيئا كان ذلك الشيء واجب الوقوع .

أما قوله تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ففيه وجوه : أحدها : الأرض أرض الجنة والعباد الصالحون هم المؤمنون العاملون بطاعة الله تعالى فالمعنى أن الله تعالى كتب في كتب الأنبياء عليهم السلام وفي اللوح المحفوظ أنه سيورث الجنة من كان صالحا من عباده وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية وهؤلاء أكدوا هذا القول بأمور : أما أولا : فقوله تعالى : { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين } ، وأما ثانيا : فلأنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت ، وغيرهم إذا حصل معهم في الجنة فعلى وجه التبع ، فأما أرض الدنيا فلأنها للصالح وغير الصالح .

وأما ثالثا : فلأن هذه الأرض مذكورة عقيب الإعادة وبعد الإعادة الأرض التي هذا وصفها لا تكون إلا الجنة . وأما رابعا : فقد روى في الخبر أنها أرض الجنة فإنها بيضاء نقية . وثانيها : أن المراد من الأرض أرض الدنيا فإنه سبحانه وتعالى سيورثها المؤمنين في الدنيا وهو قول الكلبي وابن عباس في بعض الروايات ودليل هذا القول قوله سبحانه : { وعد الله الذين آمنوا } إلى قوله : { ليستخلفنهم في الأرض } وقوله تعالى : { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } وثالثها : هي الأرض المقدسة يرثها الصالحون ، ودليله قوله تعالى : { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها } ثم بالآخرة يورثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام .