قوله تعالى : { يمحق الله الربا } . أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( يمحق الله الربا ) يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة .
قوله تعالى : { ويربي الصدقات } . أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا ، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى . قوله تعالى : { والله لا يحب كل كفار } . بتحريم الربا .
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا ، أي : يذهبه ، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به ، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة . كما قال تعالى : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [ المائدة : 100 ] ، وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم } [ الأنفال : 37 ] ، وقال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه } [ الآية ]{[4587]} [ الروم : 39 ] .
وقال ابن جرير : في قوله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " الربا وإن كثر فإلى قُلّ " .
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال : حدثنا حجاج [ قال ]{[4588]} حدثنا شريك عن الركين بن الربيع [ بن عميلة الفزاري ]{[4589]} عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل " {[4590]} وقد رواه ابن ماجة ، عن العباس بن جعفر ، عن عمرو بن عون ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " {[4591]} .
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو{[4592]} سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا الهيثم بن رافع الطاطري ، حدثني أبو يحيى - رجل{[4593]} من أهل مكة - عن فروخ مولى عثمان : أن عمر - وهو يومئذ أمير المؤمنين - خرج إلى المسجد ، فرأى طعاما منثورًا . فقال : ما هذا الطعام ؟ فقالوا : طعام جلب إلينا . قال : بارك الله فيه وفيمن جلبه . قيل : يا أمير المؤمنين ، إنه قد احتكر . قال : ومن احتكره ؟ قالوا : فروخ مولى عثمان ، وفلان مولى عمر . فأرسل إليهما فدعاهما فقال : ما حملكما على احتكار طعام المسلمين ؟ قالا يا أمير المؤمنين ، نشتري بأموالنا ونبيع ! ! فقال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من احتكر على المسلمين{[4594]} طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام{[4595]} " . فقال فروخ عند ذلك : أعاهد الله وأعاهدك ألا أعود في طعام أبدًا . وأما مولى عمر فقال : إنما نشتري بأموالنا ونبيع . قال أبو يحيى : فلقد رأيت مولى عمر مجذومًا .
ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع ، به{[4596]} . ولفظه : " من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس " .
وقوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } قُرئ بضم الياء والتخفيف ، من " ربا الشيء يربو " و " أرباه يربيه " أي : كثّره ونماه ينميه . وقرئ : " ويُرَبِّي " بالضم والتشديد ، من التربية ، كما قال البخاري : حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، وإن الله ليقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه ، حتى يكون مثل الجبل " .
كذا رواه في كتاب الزكاة . وقال في كتاب التوحيد : وقال خالد بن مخلد ، عن سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، فذكر بإسناده ، نحوه{[4597]} .
وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن خالد بن مخلد ، فذكره{[4598]} . قال البخاري : ورواه مسلم بن أبي مريم ، وزيد بن أسلم ، وسهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت : أما رواية مسلم بن أبي مريم : فقد تفرد البخاري بذكرها ، وأما طريق زيد بن أسلم : فرواها مسلم في صحيحه ، عن أبي الطاهر بن السرح ، عن ابن وهب ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، به{[4599]} . وأما حديث سهيل فرواه مسلم ، عن قتيبة ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل ، به{[4600]} . والله أعلم .
قال البخاري : وقال ورقاء عن ابن دينار ، عن سعيد بن يسار{[4601]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[4602]} .
وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن الحاكم وغيره ، عن الأصم ، عن العباس المروزي{[4603]} عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن ورقاء - وهو ابن عمر اليشكري - عن عبد الله بن دينار ، عن سعيد بن يسار{[4604]} عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يقبلها بيمينه ، فيربيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوه ، حتى تكون مثل أحد " {[4605]} .
وهكذا روى هذا الحديث مسلم ، والترمذي ، والنسائي جميعًا ، عن قتيبة ، عن الليث بن سعد ، عن سعيد المقبري . وأخرجه النسائي - من رواية مالك ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري - ومن طريق يحيى القطان ، عن محمد بن عجلان ، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[4606]} .
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وَكِيع ، عن عباد بن منصور ، حدثنا القاسم بن محمد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره - أو فلوه - حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد " . وتصديق ذلك في كتاب الله : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .
وكذا رواه أحمد ، عن وكيع ، وهو في تفسير وكيع . ورواه الترمذي ، عن أبي كُرَيْب ، عن وكيع ، به{[4607]} وقال : حسن صحيح ، وكذا رواه الثوري عن عباد{[4608]} بن منصور ، به . ورواه أحمد أيضا ، عن خلف بن الوليد ، عن ابن المبارك ، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة ، عن القاسم ، به{[4609]} .
وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق{[4610]} عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن القاسم بن محمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد إذا تصدق من طيب ، يقبلها الله منه ، فيأخذها بيمينه ، ويُرَبِّيها كما يربي أحدكم مُهْره أو فصيله{[4611]} وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله - أو قال : في كف الله - حتى تكون مثل أحد ، فتصدقوا " {[4612]} .
وهكذا رواه أحمد ، عن عبد الرزاق{[4613]} . وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ، ولكن لفظه عجيب ، والمحفوظ ما تقدم . وروي عن عائشة أم المؤمنين ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة ، كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله ، حتى يكون مثل أحد " . تفرد به أحمد من هذا الوجه{[4614]} .
وقال البزار : حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور ، حدثنا إسماعيل ، حدثني أبي ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الضحاك بن عثمان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها ، كما يربي أحدكم فلوه - أو وَصيفه - أو قال : فصيله " ثم قال : لا نعلم أحدًا رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا أبو أويس{[4615]} .
وقوله : { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي : لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة ، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل ، بأنواع المكاسب الخبيثة ، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل .
{ يمحق الله الربا } يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه . { ويربي الصدقات } يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه ، وعنه عليه الصلاة والسلام " إن الله يقبل الصدقة ويربيها كما يربي أحدكم مهره " . وعنه عليه الصلاة والسلام " ما نقصت زكاة من مال قط " { والله لا يحب } لا يرضى ولا يحب محبته للتوابين . { كل كفار } مصر على تحليل المحرمات . { أثيم } منهمك في ارتكابه .