محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

/ { يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفّار أثيم 276 } .

{ يمحق الله الربا } أي يذهب ريعه ويمحو خيره ، وإن كان زيادة في الظاهر فلا ينتفع به في الآخرة كما قال تعالى : { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله } {[1469]} . وقال تعالى : { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم } {[1470]} . { ويربي الصدقات } أي يكثرها وينميها وإن كانت نقصانا في الشاهد .

فوائد :

الأولى : قال القاشانيّ : لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين . والمال الحاصل من الربا لا بركة له لأنه حصل من مخالفة الحق . فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي . إذ كل طعام يولّد في آكله دواعي وأفعالا من جنسه . فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة ، وإن كان مكروها فإلى أفعال مكروهة . وإن كان مباحا فإلى مباحة . وإن كان من طعام فضل فإلى مندوبات ، وكان في أفعاله متبرعا متفضلا . وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية . وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك . فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرمة المتولدة من أكله . فتزداد عقوباته وآثامه أبدا . ويتلف الله ماله في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده . فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة وذلك هو المحق الكليّ . وأما المتصدق فلكون ماله مزكّى يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل . وآكله لا يكون إلا مطيعا في أفعاله . ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به . وذلك / هو الزيادة في الحقيقة . ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة . وأي زيادة أفضل مما تبقى عند الله ؟ ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصانا . وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله ؟

الثانية : قال القاشانيّ : عليه الرحمة ، قبل ذلك : آكل الربا أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر . فإن كل مكتسب له توكل ما في كسبه ، قليلا كان أو كثيرا . كالتاجر والزارع والمحترف . إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم قبل الاكتساب . فهم على غير معلوم في الحقيقة . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم ) {[1471]} . وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه . سواء ربح الآخذ أو خسر . فهو محجوب عن ربه بنفسه ، وعن رزقه بتعيينه . لا توكّل له أصلا . فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله . وأخرجه من حفظه وكلاءته . فاختطفه الجن وخبلته . فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله ، كسائر الناس المرتبطين به بالتوكل . فيكون كالمصروع الذي مسّه الشيطان فتخبطه ، لا يهتدي إلى مقصد .

الثالثة : قال بعض العلماء العمرانيين : يشترط لجواز التمول أن يكون من وجه مشروع . كما في مقابلة عمل أو معارضة . وأن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير . ولذا حرمت الشرائع السماوية كلها ، وكذلك الحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية ، أكل الربا ، قصدا لحفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية . لأن الربا هو كسب بدون مقابل ماديّ ، ففيه معنى الغصب . وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق . وبدون تعرض لخسائر طبيعية ، كالتجارة والزراعة والأملاك . ومن المشاهد أن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي بين الناس .

ثم قال : وقد نظر الماليون والاقتصاديون في أمر الربا فقالوا : إن المعتدل منه نافع / بل لا بد منه . أولا لأجل قيام المعاملات الكبيرة . وثانيا لأجل أن النقود الموجودة لا تفي للتداول ، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا ؟ وثالثا لأجل أن الكثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح أو لا يقدرون عليها . كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رؤوس أموال ولا شركاء عنان .

فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات الأفراد والأمم . أما السياسيون والأخلاقيون فينظرون إلى أن ضرر ذلك في جمهور الأمم أكبر من نفعها . لأن هذه الثروات الأفرادية تمكن الاستبداد الداخليّ . فتجعل الناس صنفين عبيدا وأسيادا . وتقوي الاستبداد الخارجيّ فتسهل التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة مالاً وعُدّة . وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة . ولذلك حرمت الأديان الربا تحريما مغلظا . انتهى .

الرابعة : قال الرازيّ : لما بالغ في الزجر عن الربا ، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ، ذكر ههنا ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الصدقات وفعل الربا ، وكشف عن فساده . وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات . والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخيرات . فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في الحقيقة . وإن الصدقة وإن كانت نقصانا في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى . ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف . بل يعول على ما ندبه الشرع إليه منهما .

وقال القفال : ونظير قوله : { يمحق الله الربا } ، المثلُ الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا . ونظير قوله : { ويربي الصّدقات } ، المثل الذي ضربه بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة .

{ والله لا يحب كل كفّار أثيم } صيغتا مبالغة من الكفر والإثم ، لاستمرار مستحلّ الربا وآكله عليهما وتماديه في ذلك . وفي الآية تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار ، لا من فعل المسلمين .


[1469]:[30/ الروم/ 39] وباقي الآية: {... وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون 39}.
[1470]:[8/ الأنفال/ 37] ونصها: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون 37}.
[1471]:كشف الخفاء رقم 58. قال في التمييز تبعا للأصل: أخرجه الديمليّ من حديث أبي هريرة، من رواية عمر بن راشد، وهو ضعيف جدا.