اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (276)

قوله تعالى : { يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي } : الجمهور على التخفيف في الفعلين من : مَحَقَ ، وأربى . وقرأ{[4723]} ابن الزبير : ورويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يُمَحِّقُ ، ويُرَبِّي " بالتشديد فيهما .

والمحق : النقص ، يقال : محقته فانمحق ، وامتحق ؛ ومنه المحاق في القمر ؛ قال : [ البسيط ]

يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ *** كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ{[4724]}

وأنشد ابن السِّكِّيتِ : [ الطويل ]

وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ *** وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ{[4725]}

ويقال : هجيرٌ ماحقٌ : إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه .

وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع :

أحدهما : الطِّباق في قوله : " يَمْحَقُ ، ويُرْبِي " فإنهما ضدَّان ، نحو : { أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم :43 ] .

والثاني : تجنيس التغاير في قوله : " الرِّبا ، ويُرْبي " إذ أحدهما اسم والآخر فعل .

فصل في بيان وجه النَّظم

لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا ، تحصيل الزيادة ، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - هاهنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً ، فهو نقصانٌ في الحقيقة ، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة ، فهي زيادةٌ في المعنى ، فلا يليق بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع ، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف ؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه ؛ فهذا وجه النظم .

فصل

اعلم أن محق الربا ، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .

أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :

أحدها : أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : " الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ{[4726]} " .

وثانيها : أنه وإن لم ينتقص ماله ، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق ، والقسوة ، والغلظة .

ثالثها : أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا ، يلعنونه ، ويبغضونه ، ويدعون عليه ؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير ، والبركة عنه في نفسه وماله .

الرابع : أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا ، توجهت إليه الأطماع ، وقصده كلُّ ظالمٍ ، ومارقٍ وطمَّاعٍ ، ويقولون : إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة ، فلا يترك في يده .

وأمَّا أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ :

أحدها : قال ابن عباس : معنى هذا المحق : أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً ، ولا جهاداً ولا حجّاً ، ولا صلة رحم{[4727]} .

ثانيها : أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى عليه التبعة ، والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر .

وثالثها : ثبت في الحديث : أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ{[4728]} ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك ، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان !

وأمَّا " إِرْبَاءُ الصدقاتِ " فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة .

أما في الدنيا : فمن وجوهٍ :

أحدها : أن من كان لله كان الله له ، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله ، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً ، ولا جائعاً في الدنيا ، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ : " اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً ، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً{[4729]} " .

وثانيها : أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه ، وذكره الجميل ، وميل القلوب إليه .

وثالثها : أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم .

ورابعها : أنَّ الأطماع تنقطع عنه ، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء ، والضعفاء ؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته ، وكلُّ ظالم ، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه ، اللهم إلاَّ نادراً ، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا .

وأما إرباؤها في الآخرة ، فروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَهُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ{[4730]} " وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } [ التوبة :104 ] .

وقال ابن الخطيب{[4731]} : ونظير قوله : { يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا } المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ .

قوله : { وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر ، ومعناه : أن ذلك عادته ، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول : فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و " الأَثِيم " فعيل بمعنى فاعلٍ ، وهو الآثم ، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه ، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا ، فيكون جاحداً .

وفيه وجه آخر وهو أن يكون " الكَفَّارُ " راجعاً إلى المستحلّ " والأَثيم " يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم ؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين .


[4723]:- ينظر: البحر المحيط 2/350، المحرر الوجيز 1/373، والدر المصون: 1/663.
[4724]:- ينظر البحر المحيط 2/346، الدر المصون 1/664.
[4725]:- ينظر: إصلاح المنطق (279)، والدر المصون 1/664.
[4726]:- أخرجه أحمد (1/395، 424) والحاكم (2/37) وابن عدي (4/1333). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[4727]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/83.
[4728]:- أخرجه الترمذي (2354) وابن ماجه (4122) وابن حبان (2567-موارد) وأبو يعلى (10/411) رقم (6018) وابن أبي شيبة (13/246) رقم (16239) وأبو نعيم في "الحلية" (7/91، 250) من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مئة سنة" وقال الترمذي: حسن صحيح وصححه ابن حبان.
[4729]:- أخرجه البخاري (3/357) كتاب الزكاة: باب اللهم أعط متفقا خلفا، حديث (1442) من حديث أبي هريرة.
[4730]:- أخرجه أحمد (2/471) والطبراني في "الصغير" (1/119) والبغوي في "شرح السنة" (6/130) وابن عدي في "الكامل" (4/1646) عن أبي هريرة. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في المجمع (3/114) عن عائشة وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
[4731]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/84.