وقد أنكر [ الله ]{[14280]} تعالى على من حَرّم ما أحل الله ، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء ، التي{[14281]} لا مستند لها ولا دليل عليها . ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة ، فقال : { وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة } أي : ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قال ابن جرير : في تركه معاجلتهم{[14282]} بالعقوبة في الدنيا .
قلت : ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ } بل يحرمون ما أنعم الله [ به ]{[14283]} عليهم ، ويضيقون على أنفسهم ، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما . وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم ، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم . وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا رباح ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا موسى بن الصباح في قول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قال : إذا كان يوم القيامة ، يؤتى بأهل ولاية الله عز وجل ، فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف قال : فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول : عبدي ، لماذا عملت ؟ فيقول : يا رب : خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها ، وحورها ونعيمها ، وما أعددت لأهل طاعتك فيها ، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري شوقا إليها . قال : فيقول الله تعالى : عبدي ، إنما عملت للجنة ، هذه الجنة فادخلها ، ومن فضلي عليك أن أعتقتك من النار ، [ ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي ]{[14284]} قال : فيدخل هو ومن معه الجنة .
قال : ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني ، قال : فيقول : عبدي ، لماذا عملت ؟ فيقول : يا رب ، خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمُومها ، وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها . فيقول : عبدي ، إنما عملت ذلك خوفا من ناري ، {[14285]} فإني قد أعتقتك من النار ، ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي . فيدخل هو ومن معه الجنة .
ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث ، فيقول : عبدي ، لماذا عملت ؟ فيقول : رب{[14286]} حبًّا لك ، وشوقا إليك ، وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك ، فيقول تبارك وتعالى : عبدي ، إنما عملت حبا لي وشوقا إلي ، فيتجلى له الرب جل جلاله ، ويقول : ها أنا ذا ، انظر إلي ثم يقول : من فضلي عليك أن أعتقك من النار ، وأبيحك جنتي ، وأزيرَك ملائكتي ، وأسلم عليك بنفسي . فيدخل هو ومن معه الجنة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا ظَنّ الّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما ظنّ هؤلاء الذين يتخرّصون على الله الكذب فَيُضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاء ، أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم وفِرْيتهم عليه ، أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر ؟ كلا بل يصليهم سعيرا خالدين فيها أبدا . إنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ على النّاس يقول : إن الله لذو تفضل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة . وَلَكِنّ أكَثرهُم لا يَشْكُرُونَ يقول : ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضله عليهم بذلك وبغيره من سائر نعمه .
{ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب } أي شيء ظنهم . { يوم القيامة } أيحسبون أن لا يجازوا عليه ، وهو منصوب بالظن ويدل عليه أنه قرئ بلفظ الماضي لأنه كائن ، وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم { إن الله لذو فضل على الناس } حيث أنعم عليهم بالعقل وهداهم إرسال الرسل وإنزال الكتب . { ولكن أكثرهم لا يشكرون } هذه النعمة .
وقوله { وما ظن الذين يفترون على الله } الآية ، وعيد ، لما تحقق عليهم ، بتقسيم الآية التي قبلها ، أنهم مفترون على الله ، عظم في هذه الآية جرم الافتراء ، أي ظنهم في غاية الرداءة بحسب سوء أفعالهم ، ثم ثنى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان : والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة ، ثم استدرك ذكر من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره ولا يبادر به فيه على جهة الذم لهم ، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله وجميع تقصير الخلق في شكره ، لا رب غيره .
عطف على { جملة قل أرأيتم } [ يونس : 59 ] ، فهو كلام غير داخل في القول المأمور به ، ولكنه ابتداء خطاب لجميع الناس . و { ما } للاستفهام . والاستفهام مستعمل في التعجيب من حالهم . والمقصود به التعريض بالمشركين ليستفيقوا من غفلتهم ويحاسبوا أنفسهم .
ولذلك كان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ( هم ) مضافاً إليه الظن إما ضميرَ خطاب أو غيبة . فيقال : وما ظنكم أو وما ظنهم ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى الإتيان بالموصول بالصلة المختصة بهم للتنبيه على أن الترْديد بين أن يكون الله أذن لهم فيما حرَّموه وبين أن يكونوا مفترين عليه قد انحصر في القسم الثاني ، وهو كونهم مفترين إذ لا مساغ لهم في ادعاء أنه أذن لهم ، فإذ تعين أنهم مفترون فقد صار الافتراء حالهم المختص بهم . وفي الموصول إيذان بعلة التعجيب من ظنهم بأنفسهم يوم القيامة .
وحذف مفعولا الظن لقصد تعميم ما يصلح له ، أي ما ظنهم بحالهم وبجزائهم وبأنفسهم . وانتصب { الكذبَ } على المفعول المطلق ، واللام فيه لتعريف الجنس ، كأنه قيل كذباً ، ولكنه عرف لتفظيع أمره ، أي هو الكذب المعروف عند الناس المستقبح في العقول .
و { يوم القيامة } منصوب على الظرفية وعامله الظن ، أي ما هو ظنهم في ذلك اليوم أي إذا رأوا الغضب عليهم يومئذٍ ماذا يكون ظنهم أنهم لاقون ، وهذا تهويل .
وجملة : { إن الله لذو فضل على الناس } تذييل للكلام المفتتح بقوله : { يأيها الناس قد جاءتكم موْعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور } [ يونس : 57 ] . وفيه قطع لعذر المشركين ، وتسجيل عليهم بالتمرد بأن الله تفضل عليهم بالرزق والموعظة والإرشاد فقابلوا ذلك بالكفر دون الشكر وجعلوا رزقهم أنهم يكذبون في حين قابله المؤمنون بالفرح والشكر فانتفعوا به في الدنيا والآخرة .