القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَماّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَىَ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فدعا موسى ربه ، فأجابه ، فلما رفع الله عنهم العذاب الذي أنزله بهم إلى أجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ليستوفوا عذاب أيامهم التي جعلها الله لهم من الحياة أجلاً إلى وقت هلاكهم ، إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ يقول : إذا هم ينقضون عهودهم التي عاهدوا ربهم وموسى ، ويقيمون على كفرهم وضلالهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : إلى أجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ قال : عدد مسمى لهم من أيامهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرّجْزَ إلى أجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ قال : ما أُعطُوا من العهود ، وهو حين يقول الله : وَلَقَدْ أخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بالسّنِينَ وهو الجوع ، وَنَقْصٍ مِنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَذّكّرُونَ .
{ الرجز } العذاب ، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هاهنا العذاب المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره ، وقال قوم من المفسرين : الإشارة هنا بالرجز إنما هي إلى طاعون أنزله فيهم مات منهم في ليلة واحدة سبعون ألف قبطي ، وروي في ذلك أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا كبشاً وُيَضِّمخوا أبوابهم بالدم ليكون ذلك فرقاً بينهم وبين القبط في نزول العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وهذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت ، وقولهم : { بما عهد } يريدون بذمامك وماَّتِتك إليه ، فهي تعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على موسى ، ويحتمل أن يكون المعنى ادع لنا ربك ماتّاً إليه بما عهد إليك ، ويحتمل إن كان شعر أن بين الله تعالى وبين موسى في أمرهم عهد ما أن تكون الإشارة إليه ، والأول أعم وألزم ، والآخر يحتاج إلى رواية وقولهم : { لئن كشفت } أي بدعائك { لنؤمنن ولنرسلن } قسم وجوابه ، وهذا عهد من فرعون وملئه الذين إليهم الحل والعقد ، ولهم ضمير الجمع في قوله { لنؤمنن } ، وألفاظ هذه الآية تعطي الفرق بين القبط وبين بني إسرائيل في رسالة موسى ، لأنه لو كان إيمانهم به على أحد إيمان بني إسرائيل لما أرسلوا بني إسرائيل ولا فارقوا دينهم ، بل كانوا يشاركون فيه بني إسرائيل ، وروي أنه لما انكشف العذاب قال فرعون لموسى اذهب ببني إسرائيل حيث شئت فخالفه بعض ملئه فرجع فنكث .
وأخبر الله عز وجل أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم الذي أعطوه موسى . و { إذا } هاهنا للمفاجأة ، و { إلى } متعلقة ب { كشفنا } و «الأجل » يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت . وهذا اللازم من اللفظ كما تقول أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام : «الأجل » هنا الغرق .
قال القاضي أبو محمد : وإنما هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أن الإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق ، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وهم ممن أخر وكشف عنهم العذاب إلى أجل بلغه ، ودخل في هذه الآية فأين الغرق من هؤلاء ؟ وأين هو ممن بقي بمصر ولم يغرق ؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام فلما كشفنا عنهم الرجز المؤجل إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ، ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلاً ، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعداً ما وقرأ أبوالبرهشم وأبو حيوة : «ينكِثون » بكسر الكاف ، والنكث نقض ما أبرم ، ويستعمل في الأجسام وفي المعاني ، وقرأ ابن محيصن ومجاهد وابن جبير «الرُّجز » بضم الراء في جميع القرآن ، قال أبو حاتم : إلا أن ابن محيصن كسر حرفين «رجز الشيطان » «والرجز فاهجر » .
قال القاضي أبو محمد : رآهما بمعنى آخر بمثابة الرجز والنتن الذي يجب التطهر منه .
جملة { فلما كشفنا عنهم الرجز } دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحاً في التوراة ، وحُذف هنا للإيجاز .
وقوله : { إلى أجل هم بالغوه } متعلق ب { كشفنا } باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون ، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله ، وهو الرجْز .
وجملة : { إذا هم ينكثون } جواب ( لما ) ، و ( إذا ) رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة أسمية ، فلما كان ( إذا ) حرفاً يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث ، أي : بادروا به ولم يؤخروه . وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين .
والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غَزْل ، قال تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } [ النحل : 92 ] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد ، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى : { إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] ففي قوله : { ينكثون } استعارة تبعية .
وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض ( جاسان ) ليلاً قال لفرعون بعضُ خاصته : مَاذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشاً للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الربع عشر من سفر الخروج .