اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلرِّجۡزَ إِلَىٰٓ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ} (135)

وقوله : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز } . أي : العذاب . إلى أجلٍ فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلَّقَ ب " كَشَفْنَا " وهو المشهور ، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه " لَمَّا " يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه ، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع ، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية ، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول .

لا يُقالُ : لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرى كَذَا ، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمة اتَّفق كذا ، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا : وقتُ إيمانهم ، وإرسالهم بني إسرائيل معه ، ويكون المرادُ بالكشفِ : استمرارَ رفع الرِّجْزِ .

كأنه قيل : فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل ، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ " الأجَلَ " بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه ، وإنَّما احتاج إلى ذلك ، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم ، أو غرقهم ؟

والثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من " الرِّجز " أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل ، والمعنى : أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً .

قال أبُو حيَّان{[16750]} : وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب " لمَّا " جاء ب " إذا " الفجائية أي : فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن .

قوله : " هم بَالِغُوهُ " في محلِّ جرٍ صفة ل " أجَلٍ " والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد ، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم .

وقوله : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } هذه " إذَا " الفُجَائيَّةِ ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً : و " هُمْ " مبتدأ ، و " ينكُثُونَ " خبره ، و " إذَا " جوابُ " لمَّا " كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور .

قال الزمخشريُّ : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب " لَمَّا " يعني : فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه ، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا .

قال أبُو حيان : " ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير " . انتهى . يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار ، كما تقدَّم ، حتَّى يَصِحَّ ذلك . وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في " لَمَّا " أنَّهَا ظَرْفٌ ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل ، وما بعد " إذَا " لا يعمل فيما قبلها ، كما تحرَّر في موضعه .

وقرأ أبُو حَيْوَةَ{[16751]} وأبو هشام " يَنْكِثُون " بكسر الكاف ، والجمهور على الضَّمِّ ، وهما لغتان في المضارع .

والنَّكْثُ : النَّقْضُ ، وأصله : مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً ، وذلك المنكوث : نِكثٌ ك : ذِبْح ، وَرِعْي . والجمعُ : أنكاث ، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات .


[16750]:ينظر: البحر المحيط 4/374.
[16751]:ينظر: الدر المصون 3/332.