قوله تعالى : { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } خبراً ، واختلفوا في نبوته : فقال بعضهم : كان نبياً . وقال أبو الطفيل : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً ؟ قال : لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكن كان عبداً أحب الله وأحبه الله ، ناصح الله فناصحه الله . وروي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر : يا ذا القرنين . فقال : سميتم بأسماء النبيين فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة . والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً . واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين . قال الزهري : لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها . وقيل : لأنه ملك الروم وفارس . وقيل : لأنه دخل النور والظلمة . وقيل لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس . وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان . وقيل : لأنه كان له قرنان تواريهما العمامة . وروى أبو الطفيل عن علي أنه قال : سمي ذا القرنين لأنه أمر قومه بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله ، ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات ، فأحياه الله . واختلفوا في اسمه ، قيل : اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح . وقيل اسمه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي .
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَيَسْأَلُونَكَ } يا محمد { عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } أي : عن خبره . وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون{[18413]} منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف .
وقد أورد ابن جرير هاهنا ، والأموي في مغازيه ، حديثا أسنده وهو ضعيف ، عن عقبة بن عامر ، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء ، فكان فيما أخبرهم به : " أنه كان شابا{[18414]} من الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ، وأنه علا به ملك في السماء ، وذهب به إلى السد ، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب " . وفيه طول ونكارة ، ورفعه لا يصح ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل . والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي ، مع جلالة قدره ، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة ، وذلك غريب منه ، وفيه من النكارة أنه من الروم ، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني ، الذي تؤرخ به الروم ، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، أول ما بناه وآمن به واتبعه ، وكان معه{[18415]} الخضر ، عليه السلام ، وأما الثاني فهو ، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور ، والله أعلم . وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم . وقد كان قبل المسيح ، عليه السلام ، بنحو من ثلثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل ، كما ذكره الأزرقي وغيره ، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم ، عليه السلام ، وقرب إلى الله قربانًا ، وقد ذكرنا طرفًا{[18416]} من أخباره في كتاب " البداية والنهاية " {[18417]} ، بما فيه كفاية ولله الحمد .
وقال وهب بن منبه : كان ملكًا ، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، قال : وقال بعض أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس . وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين ، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل قال : سئل علي ، رضي الله عنه ، عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه ، دعا قومه إلى الله فضربوه{[18418]} على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين .
وكذا رواه شعبة ، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل ، سمع عليًا يقول ذلك .
ويقال : إنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب ، من حيث يطلع{[18419]} قرن الشمس ويغرب .
–القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً * إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه ، وما كانت قصته ، فقل لهم : سأتلو عليكم من خبره ذكرا يقول : سأقصّ عليكم منه خبرا . وقد قيل : إن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر ذي القرنين ، كانوا قوما من أهل الكتاب . فأما الخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا مشركي قومه فقد ذكرناه قبل . وأما الخبر بأن الذين سألوه ، كانوا قوما من أهل الكتاب .
فحدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة ، قال : ثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن شيخين من نجيب ، قال : أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى عقبة بن عامر نتحدّث ، قالا : فأتياه فقالا : جئنا لتحدثنا ، فقال : كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت من عنده ، فلقيني قوم من أهل الكتاب ، فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن لنا عليه ، فدخلت عليه ، فأخبرته ، فقال : «مالي ومالهم ، مالي علم إلا ما علمني الله » ، ثم قال : «اسكب لي ماء » ، فتوضأ ثم صلى ، قال : فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ، ثم قال : «أدخلهم عليّ ، ومن رأيت من أصحابي » فدخلوا فقاموا بين يديه ، فقال : «إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا ، وإن شئتم أخبرتكم » ، قالوا : بلى أخبرنا ، قال : «جئتم تسألوني عن ذي القرنين ، وما تجدونه في كتابكم : كان شبابا من الروم ، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء ، فقال له ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن ، ثم علا به ، فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض ، قال : فهذا أليم محيط بالدنيا ، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل ، وتثبت العالم ، فأتى به السدّ ، وهو جبلان لينان يَزْلَق عنهما كل شيء ، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به إلى أمة أخرى ، وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم » .
واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لذي القرنين : ذو القرنين ، فقال بعضهم : قيل له ذلك من أجل أنه ضُرِب على قَرنه فهلك ، ثم أُحْيِي فضُرب على القرن الاَخر فهلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عبيد المُكْتِب ، عن أبي الطّفَيل ، قال : سأل ابن الكوّاء عليا عن ذي القرنين ، فقال : هو عبد أحبّ الله فأحبه ، وناصح الله فنصحه ، فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قَرْنه فقتلوه ، ثم بعثه الله ، فضربوه على قرنه فمات .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، قال : سئل عليّ رضوان الله عليه عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدا ناصح الله فناصحه ، فدعا قومه إلى الله ، فضربوه على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله ، فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : قال : حدثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن أبي الطفيل ، قال : سمعت عليا وسألوه عن ذي القرنين أنبيا كان ؟ قال : كان عبدا صالحا ، أحبّ الله فأحبه ، وناصَحَ الله فنصحه ، فبعثه الله إلى قومه ، فضربوه ضربتين في رأسه ، فسمي ذا القرنين ، وفيكم اليوم مثله .
حدثني به محمد بن سهل البخاريّ ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ، قال : قال وهب بن منبه : كان ذو القرنين مَلِكا ، فقيل له : فلم سُمّي ذا القرنين ؟ قال : اختلف فيه أهل الكتاب ، فقال بعضهم : مَلَك الروم وفارس . وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين .
وقال آخرون : إنما سمي ذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني ، قال : إنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه، وما كانت قصته، فقل لهم: سأتلو عليكم من خبره "ذكرا "يقول: سأقصّ عليكم منه خبرا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولَمّا فَرَغَ من هذه القصة التي حاصِلُها أنها طَوافٌ في الأرض لطلَب العِلم، عَقَّبها بقصةِ مَن طاف الأرض لطلب الجهاد، وقَدَّمَ الأُولى إشارةً إلى عُلُوّ درجة العلم لأنه أساس كلِّ سعادةٍ، وقِوامُ كلِّ أمرٍ، فقال عاطفاً على {ويُجادِلُ الَّذين كَفروا بالباطِلِ} [الكهف:56] {ويَسْألونَكَ عن} الرَّجُلِ الصّالِحِ المُجاهِدِ {ذي القَرْنَيْنِ}... وصَدّرها بالإخبار عن سؤالهم إشارةً إلى أنهم لم يَسألوا عن التي قبْلَها على ما فيها من العجائب واللطائف، والأسرارِ والمَعارفِ، تَبْكيتاً لليهود في إغفال الأمر بالسؤال عنها إن كان مقصودُهم الحَقَّ، وإن لم يكن مقصوداً لهم كانوا بالتَّبْكيت أَجْدَرَ، أو تكون معطوفة على مسألتهم الأولى وهي الرُّوح، وَصَّدَرها بالإخبار بالسؤال تنبيهاً على ذلك لِطول الفصل، إشارةً إلى أن ذلك كلَّه مرتبطٌ بجوابهم ارتباطَ الدُّرِّ بالسِّلْك...
ولَمّا كان من المعلوم أنه يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فبماذا أُجِيبُهم؟ قال: {قُلْ} أي لهم: {سَأَتْلُو} أي أَقُصُّ قَصّاً مُتتابِعاً في مُستقبَلِ الزمانِ إنْ أَعْلَمَني اللهُ به {عليكم} أيها المشركون وأهل الكتاب... {منه ذِكْراً} كافياً لكم في تَعَرُّفِ أمْرِه، جامعاً لمَجامِعِ ذِكْرِه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجوابِ {قُلْ} لهم في الجواب {سأتلو عَلَيْكُمْ} أي سأذكر لكم {مِنْهُ} أي من ذي القرنين {ذِكْراً} أي نبأ مذكوراً، وحيث كان ذلك بطريق الوحي المتلوِّ حكايةً عن الله عز وجل، قيل: سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي قرآناً، والسينُ للتأكيد والدِلالة على التحقيق المناسبِ لمقام تأييدِه عليه الصلاة والسلام وتصديقِه بإنجاز وعدِه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فيه نبأ ٌمُفيدٌ، وخِطابٌ عَجيبٌ. أي: سأتلو عليكم من أحواله، ما يُتَذكَّر فيه، ويكونُ عِبْرةً، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يَتْلُهُ عليهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولتعدد الروايات في أسباب النزول، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن. ومن هذا النص نعلم أنه كان هناك سؤال عن ذي القرنين. لا ندري -على وجه التحقيق- من الذي سأله. والمعرفة به لا تزيد شيئا في دلالة القصة. فلنواجه النص بلا زيادة. إن النص لا يذكر شيئا عن شخصية ذي القرنين ولا عن زمانه أو مكانه. وهذه هي السمة المطردة في قصص القرآن. فالتسجيل التاريخي ليس هو المقصود. إنما المقصود هو العبرة المستفادة من القصة. والعبرة تتحقق بدون حاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان. والتاريخ المدون يعرف ملكا اسمه الاسكندر ذو القرنين. ومن المقطوع به أنه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن. فالإسكندر الإغريقي كان وثنيا، وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله موحد معتقد بالبعث والآخرة. ويقول أبو الريحان البيروني المنجم في كتاب:"الآثار الباقية عن القرون الخالية" إن ذا القرنين المذكور في القرآن كان من حمير مستدلا باسمه... ولكننا لا نملك وسائل تمحيصه. ذلك أنه لا يمكن البحث في التاريخ المدون عن ذي القرنين الذي يقص القرآن طرفا من سيرته، شأنه شأن كثير من القصص الوارد في القرآن كقصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم. فالتاريخ مولود حديث العهد جدا بالقياس إلى عمر البشرية. وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون أحداث كثيرة لا يعرف عنها شيئا، فليس هو الذي يستفتي فيها! ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات لكانت مرجعا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث. ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير، وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله. فلم تعد التوراة مصدرا مستيقنا لما ورد فيها من القصص التاريخي. وإذن فلم يبق إلا القرآن. الذي حفظ من التحريف والتبديل. هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي. ومن البديهي أنه لا تجوز محاكمة القرآن الكريم إلى التاريخ لسببين واضحين: أولهما: أن التاريخ مولود حديث العهد، فاتته أحداث لا تحصى في تاريخ البشرية، لم يعلم عنها شيئا. والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لها لدى التاريخ علم عنها! وثانيهما: أن التاريخ -وإن وعى بعض هذه الأحداث- هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف. ونحن نشهد في زماننا هذا -الذي تيسرت فيه أسباب الاتصال ووسائل الفحص- أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى، وينظر إليه من زوايا مختلفة، ويفسر تفسيرات متناقضة. ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق! فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص، كلام تنكره القواعد العلمية المقررة التي ارتضاها البشر، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرر أن القرآن هو القول الفصل. وهو كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء. إنما هو مراء!!! لقد سأل سائلون عن ذي القرنين. سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه الله بما هو وارد هنا من سيرته. وليس أمامنا مصدر آخر غير القرآن في هذه السيرة. فنحن لا نملك التوسع فيها بغير علم. وقد وردت في التفاسير أقوال كثيرة، ولكنها لا تعتمد على يقين. وينبغي أن نؤخذ بحذر، لما فيها من إسرائيليات وأساطير. وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات: واحدة إلى المغرب، وواحدة إلى المشرق، وواحدة إلى مكان بين السدين.. فلنتابع السياق في هذه الرحلات الثلاث...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولم يتجاوز القرآن ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمة من هذه القصة عبرة حِكميةً أو خُلقيةً فلذلك قال الله: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِنهُ ذِكراً}. والمراد بالسؤال عن ذي القرنين السؤال عن خبره، فحذف المضاف إيجازاً لدلالة المقام، وكذلك حذف المضاف في قوله: {مِنْهُ} أي من خبره و (مِن) تبعيضية. والذكر: التذكر والتفكر، أي سأتلو عليكم ما به التذكر، فجعل المتلو نفسه ذكراً مبالغة بالوصف بالمصدر، ولكن القرآن جاء بالحق الذي لا تخليط فيه من حال الرجل الذي يوصف بذي القرنين بما فيه إبطال لما خلط به الناس بين أحوال رجال عظماء كانوا في عصور متقاربة أو كانت قصصهم تُساق مساق من جاسوا خلال بلاد متقاربة متماثلة وشوهوا تخليطهم بالأكاذيب، وأكثرهم في ذلك صاحب الشاهنامة الفردوسي وهو معروف بالأكاذيب والأوهام الخرافية...
والأمر في قوله {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} إذن من الله لرسوله بأن يَعد بالجواب عن سؤالهم عملاً بقوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} على أحد تأويلين في معناه. والسين في قول {سَأَتْلُوا عَلَيْكُم} لتحقيق الوعد كما في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربّي} في سورة يوسف (98). وجعل خبر ذي القرنين تلاوة وذكراً للإشارة إلى أن المهم من أخباره ما فيه تذكير وما يصلح لأن يكون تلاوةً حسب شأن القرآن فإنّه يُتلى لأجل الذكر ولا يُساق مساق القصص. وقوله {مِنْهُ ذِكْراً} تنبيه على أن أحواله وأخباره كثيرة وأنهم إنما يهمهم بعض أحواله المفيدة ذكراً وعظة. ولذلك لم يقل في قصة أهل الكهف: نحن نقصّ عليك من نبئهم، لأن قصتهم منحصرة فيما ذكر، وأحوال ذي القرنين غير منحصرة فيما ذكر هنا. وحرف (من) في قوله {مِنْهُ ذِكْراً} للتبعيض باعتبار مضاف محذوف، أي من خبره...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
أما مواضع العظة والعبرة في القصة فمنها:
أولا: المحاورة التي حكت بين الله تعالى وذي القرنين وتضمّنَتْ تقريرَ كونِ ذي القرنين مؤمنا داعيا إلى الإيمان ويُعامِل المؤمنين الذي يعملون الصالحاتِ بالحُسْنى ويُعَذِّب الظالمين المنحرِفين...
وثانيا: الآية التي تحكي توكيد ذي القرنين بمجيء وعْد الله وكونه حقا لا ريبَ فيه والتي تعني البعث والنُّشور.
وثالثا: ما تضمَّنتْه القصةُ من تقرير كون هذا الملك العظيم الذي بَلغ سُلطانُه وفتوحاتُه وخطورةُ شأنِه هذا المَبْلَغَ الذي كاد يكون سيِّدَ مشارق الأرض ومغاربِها مؤمناً بالله موقنا باليوم الآخِر وداعياً إلى الله ومُثِيباً للمؤمنين الصالحين بالحسنى ومُعاقِباً للكافرين الجاحدين، حيث يتطابق في صفاته وخطّتِه مع الدعوة التي يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم وتتضمنها آياتُ القرآن...
ورابعا: الآيات [98-101] التي جاءت معقبة على الآيات القصة التي تبدو وكأنها جزء متمم لها، جاءت لتربط بينها وبين توكيد مجيء القيامة وتُنْذِرَ الكفار الذين يتصاممون عن آيات الله وذِكرِه، ولا يبصرون النور الهادي الذي جاءهم به رسولُه بنار جهنم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن قصة أخرى سأل أهلُ الكِتابِ عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، هي قصة شخصٍ يُطلَق عليه لقبُ "ذي القرنين"،... ومَقصودُهم من هذه الأسئلة وما ماثَلَها هو تعجيزُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتَحَدِّيه، لأنهم يعرفون أنه "النبي الأمي "الذي خاطَبه ربُّه قائلاً: {ما كُنْتَ تَدْرِي ما الْكِتابُ ولا الإيمانُ} [الزخرف: 25] وهم يَنتظِرون بفارغ الصبر أن يَعجِز عن الجواب، أو يجيبَ عن سؤالهم جوابا غيرَ مطابقٍ للصواب، ليتّخذوا من ذلك ذريعةً للطعن في رسالته، وإبطالِ نبوّته، لكن الله تعالى يأخذُ بِيَدِه، ويُمِدُّه بمَدَدِه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} لتكشف لهم غوامض شخصيته وخصوصية تاريخه، ليتعرفوا عليها من خلال حديثك، أو ليتعرفوا دقة معلوماتك، عندما يقارنون بينها وبين ما يملكونه من معلوماتٍ حصلوا عليها من مصادرهم الموثوقة أو غير الموثوقة، ليكون السؤال اختباراً لما تملكه من المعرفة. {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} يمنحكم الفكرة والعبرة، بعيداً عن الفضول الذاتي الباحث عن التفاصيل...