ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء فقال جل ذكره : { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } جمع الجلباب ، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار . وقال ابن عباس وأبو عبيدة : أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر . { ذلك أدنى أن يعرفن } أنهن حرائر ، { فلا يؤذين } فلا يتعرض لهن ، { وكان الله غفوراً رحيماً } قال أنس : مرت بعمر بن الخطاب جارية متقنعة فعلاها بالدرة ، وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ، ألقي القناع .
ثم أمر الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة - إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن - وهي فتحة الصدر من الثوب - بجلباب كاس . فيميزهن هذا الزي ، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق . فإن معرفتهن وحشمتهن معا تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتتبعون النساء لمعابثتهن : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن . ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين . وكان الله غفورا رحيما ) . .
قال السدي في هذه الآية : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طريق المدينة فيعرضون للنساء . وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن . فإذا رأوا المرأة عليها جلباب . قالوا : هذه حرة . فكفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها . .
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة . وقوله تعالى : ( وكان الله غفورا رحيما )أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك .
ومن ذلك نرى الجهد المستمر في تطهير البيئة العربية ، والتوجيه المطرد لإزالة كل أسباب الفتنة والفوضى ، وحصرها في أضيق نطاق ، ريثما تسيطر التقاليد الإسلامية على الجماعة كلها وتحكمها .
لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكر فيهن أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب ، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء ، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلاً أو شاباً وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، و «الجلباب » ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء واختلف الناس في صورة إدنائه ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وعبيدة السلماني{[9578]} : ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها ، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، وقوله تعالى : { ذلك أدنى أن يعرفن } أي على الجملة بالفرق حتى لا يختلطن بالإماء ، فإذا عرفن لم يقابلن بأذى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي ، وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها الذرة محافظة على زي الحرائر ، وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى ، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} يعني القناع فوق الخمار {ذلك أدنى} يعني أجدر {أن يعرفن} في زيهن أنهن لسن بمريبات، وأنهن عفائف، فلا يطمع فيهن أحد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين، لا يتشبهن بالإماء في لباسهنّ إذا هن خرجن من بيوتهنّ لحاجتهنّ، فكشفن شعورهنّ ووجوههنّ، ولكن ليدنين عليهنّ من جلابيبهنّ، لئلا يعرض لهنّ فاسق، إذا علم أنهنّ حرائر بأذى من قول.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الإدناء الذي أمرهنّ الله به؛
فقال بعضهم: هو أن يغطين وجوههنّ ورؤوسهنّ، فلا يبدين منهنّ إلا عينا واحدة... وقال آخرون: بل أمرن أن يشددن جلابيبهنّ على جباههنّ...
عن ابن عباس، قوله:"يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ" إلى قوله: "وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما "قال: كانت الحرّة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ وإدناء الجلباب: أن تقنع وتشدّ على جبينها...
عن مجاهد، قوله: "يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ": يتجلببن فيُعلم أنهنّ حرائر فلا يعرض لهنّ فاسق بأذى من قول ولا ريبة...
وقوله: "ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" يقول تعالى ذكره: إدناؤهنّ جلابيبهنّ إذا أدنينها عليهنّ أقرب وأحرى أن يعرفن ممن مررن به، ويعلموا أنهنّ لسن بإماء، فيتنكّبوا عن أذاهنّ بقول مكروه، أو تعرّض بريبة.
"وكانَ اللّهُ غَفُورا" لما سلف منهنّ من تركهنّ إدناءهنّ الجلابيب عليهنّ "رَحِيما" بهنّ أن يعاقبهنّ بعد توبتهنّ بإدناء الجلابيب عليهنّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما كانت عادة العربيات التبذل في معنى الحجبة، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكر فيهن، أمر الله تعالى رسوله عليه السلام بأمرهن بإدناء الجلابيب، ليقع سترهن ويبين الفرق بين الحرائر والإماء، فيعرف الحرائر بسترهن فكيف عن معارضتهن من كان غزلاً أو شاباً.
وباقي الآية ترجية ولطف وحظ على التوبة وتطميع في رحمة الله تعالى، وفيها تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع.
لما ذكر أن من يؤذي المؤمنين يحتمل بهتانا، وكان فيه منع المكلف عن إيذاء المؤمن، أمر المؤمن باجتناب المواضع التي فيها التهم الموجبة للتأذي لئلا يحصل الإيذاء الممنوع منه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر، أو ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها النبي} فذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة، لأن السياق لحكمة يذب بها عن الحريم لئلا يشتغل فكره صلى الله عليه وسلم بما يحصل لهن من الأذى عن تلقي شيء من الواردات الربانية، {قل لأزواجك} بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح، {وبناتك} ثنى بهن لما لهن به من الوصلة ولهن في أنفسهن من الشرف، وأخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن، ولما رقاهم سبحانه بهذا الأمر في حضرات الرضوان، خافوا عاقبة ما كانوا فيه من الغلط بالتشبه بالإماء، فأخبرهم سبحانه أنه في محل الجود والإحسان، فقال: {وكان الله} أي الذي له الكمال المطلق، أزلاً وأبداً {غفوراً} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً {رحيماً} مكرماً لمن يقبل عليه ويمتثل أوامره ويحتنب مناهيه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والإدناء: التقريب يقال أدناني أي قربني، وضمن معنى الإرخاء أو السدل، ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت {مُّبِيناً يأَيُّهَا النبي قُل لأزواجك وبناتك} الآية، شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان. قال السبكي في طبقاته: إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف؛ لأن فيه تمييزاً لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم، وهو استنباط لطيف.
{رَّحِيماً}... قيل: رحيماً بهن بعد التوبة عن الاخلال بالتستر بعد نزول الآية، وقبل.
رحيماً بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذه الآية التي تسمى آية الحجاب، فأمر اللّه نبيه أن يأمر النساء عمومًا، ويبدأ بزوجاته وبناته لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر [لغيره] ينبغي أن يبدأ بأهله، قبل غيرهم كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم أمر الله نبيه [صلى الله عليه وسلم] أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة -إذا خرجن لحاجتهن أن يغطين أجسامهن ورؤوسهن وجيوبهن- وهي فتحة الصدر من الثوب -بجلباب كاس. فيميزهن هذا الزي، ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق. فإن معرفتهن وحشمتهن معا تلقيان الخجل والتحرج في نفوس الذين كانوا يتتبعون النساء لمعابثتهن: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن. ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين. وكان الله غفورا رحيما)..
قال السدي في هذه الآية: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طريق المدينة فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب. قالوا: هذه حرة. فكفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا: هذه أمة فوثبوا عليها..
وقال مجاهد: يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة. وقوله تعالى: (وكان الله غفورا رحيما) أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.
ومن ذلك نرى الجهد المستمر في تطهير البيئة العربية، والتوجيه المطرد لإزالة كل أسباب الفتنة والفوضى، وحصرها في أضيق نطاق، ريثما تسيطر التقاليد الإسلامية على الجماعة كلها وتحكمها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى، لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها...
وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد...
وابتدئ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء، فذكرهن من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام به.
والنساء: اسم جمع للمرأة لا مفرد له من لفظه، وقد تقدم آنفاً عند قوله تعالى: {ولا نسائهن} [الأحزاب: 55]. فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإِناث المؤمنات، وإضافته إلى المؤمنين على معنى (من) أي النساء من المؤمنين.
والجلابيب: جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقِناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذارَيْها وينسدل سائره على كتفها وظهرها، تلبسه عند الخروج والسفر.
وهيئات لبس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات. والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}.
والإِدناء: التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع، أي يضعن عليهن جلابيبهن...
وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر، فكانت الإِماء لا يلبسن الجلابيب. وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها، فكُنَّ لا يلبسْنَها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كنّ يخرجن إليها إلا ليلاً فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج ليعرف أنهن حرائر، فلا يتعرض إليهن شباب الدُّعّار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافاً بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذيْنَ من ذلك، وربما يسببْن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين. فهذا من سدّ الذريعة.
والإِشارة ب {ذلك} إلى الإدناء المفهوم من {يدنين}، أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يُعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن...
والتذييل بقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإِسلامي، والتذييل يقتضي انتهاء الغرض.
وشرط في لباس المرأة الشرعي ألا يكون كاشفا ولا واصفا ولا ملفتا للنظر، لأن من النساء من ترتدي الجلباب الطويل السابغ الذي لا يكشف شيئا من جسمها، إلا أنه ضيق يصف الصدر ويصف الأرداف، ويجسم المفاتن، حتى تبدو وكأنها عارية.