قوله :{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } فطهره الله مما قالوا : { وكان عند الله وجيهاً } كريماً ذا جاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه ، إذا كان ذا جاه وقدر . قال ابن عباس : كان حظياً عند الله لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه . وقال الحسن : كان مستجاب الدعوة . وقيل : كان مجيباً مقبولاً . واختلفوا فيما أوذي به موسى .
فأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا روح بن عبادة ، أنبأنا عوف ، عن الحسن ومحمد وخلاس ، عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياءً فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا ما تستر موسى هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص أو أدرة ، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا ، فخلا يوماً وحده ليغتسل فوضع ثيابه على الحجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً " فذلك قوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً } . وقال قوم : إيذاؤهم إياه أنه لما مات هارون في التيه ادعوا على موسى أنه قتله ، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل فعرفوا أنه لم يقتله ، فبرأه الله مما قالوا . وقال أبو العالية : هو أن قارون استأجر مومسة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ ، فعصمها الله وبرأ موسى من ذلك ، وأهلك قارون .
أنبأنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أبو الوليد ، أنبأنا شعبة ، عن الأعمش قال : سمعت أبا وائل قال : سمعت عبد الله قال : " قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً ، فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فغضب حتى رأيت الغضب في وجهه ، ثم قال : يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " .
ويبدو أن زواج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش - رضي الله عنها - مخالفا في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية . يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر ؛ وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب ، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط ، انطلقت تغمز وتلمز ، وتؤول وتعترض ، وتهمس وتوسوس . وتقول قولا عظيما !
والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون . فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم . كالذي رأينا في غزوة الأحزاب . وفي حديث الإفك . وفي قسمة الفيء . وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بغير حق .
وفي هذا الوقت - بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل - لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر . فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين ، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين . وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات ، وينشرون الأكاذيب ، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم ، ويسايرهم في بعض ما يروجون . فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى - عليه السلام - ويوجههم إلى تسديد القول ، وعدم إلقائه على عواهنه ، بغير ضبط ولا دقة ؛ ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا . وكان عند الله وجيها . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، يصلح لكم أعمالكم ، ويغفر لكم ذنوبكم . ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) . .
ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى ؛ ولكن وردت روايات تعينه . ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن . فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي [ صلى الله عليه وسلم ]
وقد ضرب بني إسرائيل مثلا للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة . فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم . وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه ، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلا صارخا للانحراف والالتواء .
وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه ، ( وكان عند الله وجيها )ذا وجاهة وذا مكانة . والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبا وبهتانا . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه .
{ الذين آذوا موسى } هم قوم من بني إسرائيل ، واختلف الناس في الإذاية التي كانت وبرأه الله منها ، فقالت فرقة هي قصة قارون ، وإدخاله المرأة البغي في أن تدعي على موسى ثم تبرئتها له وإشهارها بداخلة قارون ، وقد تقدمت القصة في ذكر قارون ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي أن موسى وهارون خرجا من فحص التيه{[9584]} إلى جبل مات هارون فيه ، فجاء موسى وحده ، فقال قوم هو قتله ، فبعث الله تعالى ملائكة حملوا هارون حتى طافوا به في أسباط بني إسرائيل ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى ولم يكن فيه أثر ، وروي أنه حيي فأخبرهم بأمره وببراءة موسى ، وقال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة هي ما تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيراً ويخفي بدنه فقال قوم هود آدر أو أبرص أو به آفة{[9585]} فاغتسل موسى يوماً وجعل ثيابه على حجر ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر{[9586]} ، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل ، فرواه سليمان مما ظن به ، الحديث بطوله خرجه البخاري{[9587]} { فبرأه الله مما قالوا } و «الوجيه » المكرم الوجه ، وقرأ الجمهور «وكان عند الله » ، وقرأ ابن مسعود «وكان عبد الله » .