ثم يأخذ في كشف المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها . قضية العقيدة :
( ما لهم به من علم ولا لآبائهم ) . .
فما أشنع وما أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم ، هكذا جزافا :
( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) . .
وتشترك الألفاظ بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها . فهو يبدأ بكلمة( كبرت ) لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما . ويجعل الكلمة الكبيرة تمييزا لضميرها في الجملة : ( كبرت كلمة ) زيادة في توجيه الانتباه إليها . ويجعل هذه الكلمة تخرج من أفواههم خروجا كأنما تنطلق منها جزافا وتندفع منها اندفاعا ( تخرج من أفواههم ) . وتشارك لفظة ( أفواههم ) بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها ، فالناطق بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد : ( أفوا ) ثم تتوالى الهاءان فيمتلى ء الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة : ( أفواههم ) . وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل . ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء : ( إن يقولون إلا كذبا ) : ويختار للنفي كلمة : ( إن )لا كلمة " ما " لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح ، وفي لفظ " ما " شيء من الليونة بالمد . . وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار ، ولزيادة التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة . .
{ ما لهم به من علم } أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول ، والمعنى أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب ، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به ، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر . أو بالله إذ لو علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه . { ولا لآبائهم } الذين تقولوه بمعنى التبني . { كبُرت كلمة } عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ ، و{ كلمة } نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ وأدل على المقصود . { تخرج من أفواههم } صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواهم ، والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها . وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبرها هنا بمعنى بئس وقرئ { كبرت } بالسكون مع الإشمام . { إن يقولون إلا كذبا } .
{ ما لهم به من علم ولا لآبائهم }
جملة { ما لهم به من علم } حال من { الذين قالوا } . والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من { قالوا } .
و ( من ) لتوكيد النفي . وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذباً ليست لهم فيه شبهة ، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } [ المؤمنون : 117 ] .
وضمير { به } عائد على مصدر مأخوذ من فعل { قالوا } ، أي ما لهم بذلك القول من علم .
وعطف { ولا لآبائهم } لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] ، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يُقلدوهم .
{ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذبا }
استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع .
ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية .
وفعل { كبرت } بضم الباء . أصله : الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه ، ويستعمل مجازاً في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة ، وهو هنا مستعمل في التعجيب من كِبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام . ودل على قصد التعجيب منها انتصاب { كلمة } على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب ، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فَعُل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نِعم وبئس بحسب المقام .
والضمير في قوله : { كبرت } يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز .
وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع ، ومنه قوله تعالى : { إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ، وقول النبي : أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد :
وجملة { تخرج من أفواههم } صفة ل { كلمة } مقصود بها من جُرْأتِهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها .
والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخييلاً لفظاعتها . وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه ، لأنه لاستحالته تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تتعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل .
والأفواه : جمع فَم وهو بوزن أفعال ، لأن أصل فم فَوَه بفتحتين بوزن جَمل ، أو فيهٍ بوزن ريح ، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة حروف الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفاً يعتمد عليه لسانه ، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار « فاً » ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين ، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار « فم » ، ولما جمعوه ردوه إلى أصله .
وجملة { إن يقولون إلا كذباً } مؤكدة لمضمون جملة { تخرج من أفواههم } لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفسسِ الأمر هو الكذب ، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب ، فما قولهم ذلك إلا كذب ، أي ليست له صفة إلا صفة الكذب .
هذا إذا جعل القول المأخوذ من { يقولون } خصوص قولهم : { اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] . ولك أن تحمل { يقولون } على العموم في سياق النفي ، أي لا يصدر منهم قول إلا الكذب ، فيكون قصراً إضافياً ، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام ، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن { يقولون } تذييلاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.