اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

واعلم أنَّ إثبات الولد لله كفرٌ عظيمٌ ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام في قوله : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الأنعام : 100 ] وسيأتي تمامه - إن شاء الله تعالى - في سورة مريم ؛ لأنَّه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد من وجهين :

الأول : قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } .

فإن قيل : اتخاذ الله تعالى الولد محالٌ في نفسه ، فكيف قيل : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } [ الزخرف : 20 ] ؟ .

فالجوابُ أنَّ انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ؛ وقد يكون لأنَّه في نفسه محالٌ ، لا يمكن تعلق العلم به ، ونظيره قوله : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] .

فصل

تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : دلَّت هذه الآية على أن القول في الدِّين بغير علمٍ باطل ، والقول بالقياس الظنيِّ قول في الدِّين بغير علم ، فيكون باطلاً .

وجوابه تقدم عند قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] .

وقوله : { وَلاَ لآبَائِهِمْ } أي أحداً من أسلافهم ، وهذه مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلاة جدًّا .

قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ } : أي : بالولد ، أو باتخاذه ، أو بالقول المدلول عليه ب " اتَّخَذَ " وب " قَالُوا " ، وبالله .

وهذه الجملة المنفية فيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها مستأنفة ، سيقت للإخبار بذلك .

والثاني : أنها صفة للولد ، قاله المهدويُّ ، وردَّه ابن عطية : بأنه لا يصفه بذلك إلاَّ القائلون ، وهم لم يقصدوا وصفه بذلك .

الثالث : أنها حالٌ من فاعل " قالوا " ، أي : قالوه جاهلين .

و " مِنْ عِلم " يجوز أن يكون فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ ، والجارُّ هو الرافع لاعتماده أو الخبر ، و " مِنْ " مزيدة على كلا القولين .

قوله : " كَبُرتْ كلمة " في فاعل " كَبُرتْ " وجهان :

أحدهما : أنه مضمرٌ عائد على مقالتهم المفهومة من قوله : { قَالُواْ اتخذ الله } أي : كبر مقالهم ، و " كلمة " نصب على التمييز ، ومعنى الكلام على التعجُّب ، أي : ما أكبرها كلمة ، و " تَخرُج " الجملة صفة ل " كَلمةٌ " ويؤذنُ باستعظامها لأنَّ بعض ما يهجس في الخاطر لا يجسر الإنسان على إظهاره باللفظ .

والثاني : أن الفاعل مضمر مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز ، ومعناها الذمُّ ؛ ك " بِئْسَ رجلاً " فعلى هذا : المخصوصُ بالذمِّ محذوف ، تقديره : كبرت هي الكلمة كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاءُ .

وقرأ العامة " كلمة " بالنصب ، وفيها وجهان :

النصبُ على التمييز تقديره كبرت الكلمة .

قال الواحديُّ{[20798]} : ومعنى التمييز : أنَّك إذا قلت : كبرت المقالة أو الكلمة ، جاز أن يتوهم أنَّها كبرت كذباً ، أو جهلاً ، أو افتراء ، فلما قلت : " كَلِمَة " فقد ميَّزتها من محتملاتها ، فانتصبت على التَّمييز ، والتقدير : كبرت الكلمة كلمة ، فحصل فيه الإضمار .

وأمَّا من رفع " كلمةٌ " فلا يضمر شيئاً .

قال النحويُّون : النصب أقوى وأبلغ .

وقد تقدَّم تحقيقه في الوجهين السابقين .

والثاني : النصب على الحال ، وليس بظاهر وقيل : نصباً على حذف حرف الجرّ ، والتقدير : " مِنْ كَلمَةٍ " فحذف " مِنْ " فانتصب .

قوله : " تَخرجُ " في الجملة وجهان :

أحدهما : هي صفة لكلمة .

والثاني : أنها صفة للمخصوص بالذَّم المقدر ، تقديره : كبرت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً .

وقرأ{[20799]} الحسن ، وابن محيصنٍ ، وابن يعمر ، وابن كثير - في رواية القوَّاس عنه - " كَلمَةٌ " بالرفع على الفاعلية ، و " تَخْرجُ " صفة لها أيضاً ، وقرئ{[20800]} " كَبْرَتْ " بسكون الباء ، وهي لغة تميم .

قوله : " كَذِباً " فيه وجهان :

أحدهما : هو مفعولٌ به ؛ لأنه يتضمَّن معنى جملة .

والثاني : هو نعت مصدر محذوف ، أي : قولاً كذباً .

فصل في المراد من الكلمة

المراد من هذه الكلمة هو قولهم : { اتخذ الله وَلَداً } فصارت مضمرة في " كَبُرتْ " ، وسمِّيت : " كلمة " كما يسمُّون القصيدة كلمة .

وقوله : { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : هذا الذي يقولونه ، لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتَّة ؛ لكونه في غاية الفساد والبطلان ، فكأنَّه يجري على لسانهم على سبيل التقليد { إِن يَقُولُونَ } ، أي : ما يقولون إلاَّ كذباً .

واختلف النَّاس في حقيقة{[20801]} الكذب ، فقيل : هو الخبر الذي لا يطابقُ المخبر عنه .

وقيل : قال بعضهم : يشترط علم قائله بأنَّه غير مطابقٍ .

قال ابن الخطيب{[20802]} : وهذا القيد{[20803]} عندنا باطلٌ ؛ لأنَّه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك ، ولا يعلم كونه كذباً باطلاً ، فعلمنا أن كلَّ خبر لا يطابقُ المخبر عنه ، فهو كذبٌ ، سواءٌ علم القائل بكونه كذباً ، أو لم يعلم .

ويمكن أن يجاب بأنَّ الله تعالى ، إنما وصف علماءهم المحرِّفين للكلم عن مواضعه ، ودخل المقلِّدون على سبيل التَّبع عليه .

فصل في الرد على النّظام

احتجَّ النظَّام على أنَّ الكلام جسمٌ بهذه{[20804]} الآية ، قال : لأنَّه تعالى وصف الكلمة بأنَّها تخرجُ من أفواههم ، والخروجُ عبارة عن الحركةِ ، والحركةُ لا تصحُّ إلاَّ على الأجسام ، وأجيب : بأنَّ الحروف والأصوات إنَّما تحدث بسبب خروجِ النفس من الحلق ، فلما كان خروج النَّفسِ سبباً لحدوثِ الكلمةِ ، أطلق لفظ الخروج على الكلمة .


[20798]:ينظر: الفخر الرازي 21/66.
[20799]:ينظر: الإتحاف 2/209، والبحر 6/50، 96، والدر المصون 4/433.
[20800]:ينظر: البحر 6/95، والدر المصون 4/433.
[20801]:ينظر: الفخر الرازي 21/67.
[20802]:ينظر: المصدر السابق.
[20803]:في أ: القول.
[20804]:ينظر: الفخر الرازي 21/66.