تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي : بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم { وَلا لآبَائِهِمْ } أي : أسلافهم .

{ كَبُرَتْ كَلِمَةً } : نصب على التمييز ، تقديره : كبرت كلمتهم هذه كلمة .

وقيل : على التعجب ، تقديره : أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا قاله بعض البصريين . وقرأ ذلك بعض قراء مكة : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } كما يقال : عَظُم قولُك ، وكبر{[17961]} شأنُك .

والمعنى على قراءة الجمهور أظهر ؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم{[17962]} واستعظام لإفكهم ؛ ولهذا قال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : ليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال : { إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا } .

وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي مُعَيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود{[17963]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم{[17964]} أمره وبعض قوله ، وقالا{[17965]} إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالت لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بِهِن ، فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل مُتَقَول فَرَوا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنهم{[17966]} قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبَؤه{[17967]} ؟ [ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ ]{[17968]} فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به ، فقال{[17969]} لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخبركم غدا بما سألتم عنه " . ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يُحدث الله إليه في ذلك وحيًا ، ولا يأتيه جبريل ، عليه السلام ، حتى أرجف{[17970]} أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدًا ، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها ، لا يُخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثُ الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل ، عليه السلام ، من عند الله ، عز وجل ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية{[17971]} والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 85 ]{[17972]}


[17961]:في ت: "وعظم".
[17962]:في ت: "لمقالهم".
[17963]:في ت: "يهودي".
[17964]:في أ: "له".
[17965]:في ت: "وقال".
[17966]:في أ: "فإنه".
[17967]:في ت، أ: "بناؤه".
[17968]:زيادة من الطبري.
[17969]:في ت: فقالوا".
[17970]:في ت: "أوجب".
[17971]:في ت: "الفقيه".
[17972]:رواه الطبري في تفسيره (15/127).