مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

فإن قيل اتخاذ الله ولدا محال في نفسه فكيف قيل { ما لهم به من علم } ؟ قلنا : انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به . ونظيره قوله : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا : هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل ، والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلا وتمام تقريره مذكور في قوله : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقوله : { ولا لآبائهم } أي ولا أحد من أسلافهم ، وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة . النوع الثاني : مما ذكره الله في إبطاله قوله : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } وفيه مباحث :

البحث الأول : قرئ : { كبرت كلمة } بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية ، قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذبا أو جهلا أو افتراء ، فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار ، أما من رفع فلم يضمر شيئا كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ ، وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة .

البحث الثاني : قوله : { كبرت } أي كبرت الكلمة . والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله : { قالوا اتخذ الله ولدا } فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة .

البحث الثالث : احتج النظام في إثبات قوله : أن الكلام جسم بهذه الآية قال : إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة ؛ والحركة لا تصح إلا على الأجسام . والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق ، فلما كان خروج النفس سببا لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة .

البحث الرابع : قوله : { تخرج من أفواههم } يدل على أن هذا الكلام مستكره جدا عند العقل ؛ كأنه يقول : هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم ألبتة لكونه في غاية الفساد والبطلان ، فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد ، لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى : { إن يقولون إلا كذبا } ومعناه ظاهر ، واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب . فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا ؟ ومن الناس من قال شرط كونه كذبا أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق ، وهذا القيد عندنا باطل ، والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذبا ، مع أن الكثير منهم يقول ذلك ، ولا يعلم كونه باطلا ، فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقا أو لم يعلم ،