نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

ثم استأنف معللاً في جواب{[45472]} من كأنه قال : ما لهم خصوا بهذا الوعيد الشديد ؟ فقال تعالى : { ما لهم به } {[45473]}أي القول{[45474]} { من علم } أصلاً{[45475]} لأنه مما لا{[45476]} يمكن أن يعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده ، ثم قرر هذا المعنى وأكد بقوله تعالى : { ولا لأبائهم } الذين هم مغتبطون بتقليدهم {[45477]}في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل ، ولو أخطأوا في تصرف دنيوي لم يتبعوهم فيه{[45478]} ، تنبيهاً عل أنه لا يحل لأحد أن يقول على الله تعالى ما لا علم له به ، ولا سيما في أصول الدين ، ثم هول أمر ذلك بقوله تعالى : { كبرت }{[45479]} أي مقالتهم هذه{[45480]} { كلمة } أي ما أكبرها من كلمة ! {[45481]}وصوّر فظاعة اجترائهم على النطق بها بقوله تعالى{[45482]} : { تخرج من أفواههم } أي لم يكفهم خطورها في نفوسهم ، وترددها في صدورهم ، حتى تلفظوا بها ، {[45483]}وكان تلفظهم بها على وجه التكرير - بما أشار إليه التعبير بالمضارع{[45484]} ؛ ثم بين {[45485]}ما أفهمه{[45486]} الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلاً ، لأنه لا وجود له فقال تعالى : { إن } أي ما{[45487]} { يقولون إلا كذباً * } أي قولاً لا حقيقة له بوجه من الوجوه .

وقال ابن الزبير في برهانه : من الثابت المشهور أن قريشاً بعثوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأجابت يهود بسؤاله عن ثلاثة أشياء ، قالوا{[45488]} : فإن أجابكم{[45489]} فهو نبي ، وإن عجز فالرجل متقول{[45490]} فرؤا فيه رأيكم ، وهي الروح ، وفتية ذهبوا{[45491]} في الدهر الأول وهم أهل الكهف ، وعن{[45492]} رجل طواف{[45493]} بلغ{[45494]} مشارق الأرض ومغاربها ، فأنزل الله عليه جواب ما سألوه ، وبعضه في سورة الإسراء

{ ويسئلونك عن الروح{[45495]} }[ الإسراء : 85 ] الآية ، واستفتح سبحانه وتعالى سورة الكهف بحمده ، وذكر نعمة الكتاب وما أنزل بقريش وكفار العرب من البأس يوم بدر وعام الفتح ، وبشارة المؤمنين بذلك{[45496]} وما منحهم الله تعالى من النعيم الدائم ، وإنذار القائلين بالولد من النصارى وعظيم مرتكبهم وشناعة قولهم { إن يقولون إلا كذباً } وتسلية نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمر جميعهم { فلعلك باخع نفسك } [ الكهف :6 ] ، والتحمت الآي أعظم التحام ، وأحسن التئام ، إلى ذكر ما سأل عنه الكفار من أمر الفتية

{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً }[ الكهف : 9 ] ثم بسطت الآي قصتهم ، وأوضحت أمرهم ، واستوفت خبرهم ؛ ثم ذكر سبحانه أمر ذي القرنين وطوافه وانتهاء أمره ، فقال تعالى

{ ويسئلونك عن ذي القرنين }[ الكهف : 83 ] الآيات ، وقد فصلت بين القصتين بمواعظ وآيات مستجدة على أتم ارتباط ، وأجل اتساق{[45497]} ، ومن جملتها قصة الرجلين وجنتي أحدهما وحسن الجنتين وما بينهما وكفر صاحبهما واغتراره ، وهما من بني إسرائيل ، ولهما قصة ، وقد أفصحت هذه الآي منها{[45498]} باغترار أحدهما بما لديه وركونه إلى توهم البقاء ، وتعويل صاحبه على{[45499]} ما عند ربه ورجوعه إليه وانتهاء أمره - بعد المحاورة الواقعة في الآيات بينهما{[45500]} - إلى إزالة ما تخيل المفتون بقاءه ، ورجع ذلك كأن لم يكن ، ولم يبق بيده إلا الندم ، ولا صح له من جنته بعد عظيم تلك البهجة سوى التلاشي والعدم ، وهذه حال من ركن إلى ما{[45501]} سوى المالك ، ومن كل شيء إلا وجهه سبحانه وتعالى فان وهالك

{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو }[ محمد : 36 ]

{ ففروا إلى الله }[ الذاريات : 50 ] ثم أعقب ذلك بضرب مثل الحياة الدنيا لمن اعتبر واستبصر ، وعقب تلك الآيات بقصة موسى والخضر عليهما السلام{[45502]} إلى تمامها ، وفي كل ذلك من تأديب بني إسرائيل وتقريعهم وتوبيخ مرتكبهم في توقفهم عن الإيمان وتعنيفهم في توهمهم عند فتواهم لكفار قريش بسؤاله عليه السلام عن القصص الثلاث{[45503]} أن{[45504]} قد حازوا العلم{[45505]} وانفردوا بالوقوف على ما لا{[45506]} يعلمه غيرهم ، فجاء جواب قريش بما يرغم الجميع ويقطع دابرهم ، وفي ذكر قصة موسى والخضر إشارة لهم لو عقلوا ، وتحريك لمن سبقت له منهم السعادة ، وتنبيه لكل موفق في تسليم الإحاطة لمن هو العليم الخبير ، وبعد تقريعهم وتوبيخهم بما أشير إليه عاد الكلام إلى بقية سؤالهم فقال تعالى { ويسئلونك عن ذي القرنين } إلى آخر القصة ، وليس بسط هذه القصص من مقصودنا وقد حصل ، ولم يبق إلا السؤال عن وجه انفصال جوابهم ووقوعه في السورتين مع أن السؤال واحد ، وهذا ليس من شرطنا فلننسأه بحول الله إلى موضعه إن{[45507]} قدر به - انتهى .

وقد تقدم في سورة الإسراء من الجواب عن هذا أن{[45508]} الروح ضمت إليها ، لأنها من سر الملكوت كالإسراء ، وبقي أنه لما أجمل سبحانه أمرها لما ذكر من عظيم السر ، وعيب عليهم اشتغالهم بالسؤال وترك ما هو من عالمها ، وهو أعظم منها ومن كل ما برز إلى الوجود من ذلك العالم من الروح المعنوي الذي به صلاح الوجود كله ، وهو القرآن العظيم ، و{[45509]}عظم أمره{[45510]} بما ذكر في الإسراء إلى أن اقتضى الحال{[45511]} في إنهاء عظمته أن يدل على إصلاح الوجود به بما حرره وفصله وقرره من أمر السؤالين الباقيين اللذين هما من ظاهر الملك فيما ضم إليهما مما تم به الأمر ، واتضح به ما له{[45512]} من جليل القدر ، كان الأكمل في ذلك أن يكون ما انتظم به ذلك سورة على حدتها ، ولما كان أمر أهل الكهف من حفظ الروح في الجسد على ما لم يعهد مثله ثم إفاضتها ، قدم الجواب عن{[45513]} السؤال عنهم ليلي أمر الروح ، وختم بذي القرنين لإحاطة أمره بما{[45514]} طاف من الأرض ، ولما جعل من السد علماً على انقضاء شأن هذه الدار وختام أمرها ، وطي ما برز من نشرها والله سبحانه وتعالى أعلم .


[45472]:من مد وفي الأصل وظ: جوابه.
[45473]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45474]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45475]:العبارة من هنا إلى "وأكد بقوله تعالى" ساقطة من ظ.
[45476]:من مد، وفي الأصل: لم.
[45477]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45478]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45479]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45480]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45481]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45482]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45483]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45484]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[45485]:العبارة من هنا إلى "الكلام من" ساقطة من ظ.
[45486]:من مد، وفي الأصل: الهم.
[45487]:زيد من مد.
[45488]:زيد من ظ ومد .
[45489]:من ظ ومد، وفي الأصل: جاء بذلك.
[45490]:من ظ ومد، وفي الأصل: متبول.
[45491]:سقط من ظ.
[45492]:من ظ ومد، وفي الأصل: من.
[45493]:من ظ ومد، وفي الأصل: طاف.
[45494]:زيد من ظ ومد.
[45495]:زيد في ظ: قل الروح من أمر ربي.
[45496]:زيد من ظ ومد.
[45497]:من ظ ومد وفي الأصل: انتشاق.
[45498]:من ظ ومد، وفي الأصل: منهما.
[45499]:من ظ ومد وفي الأصل: إلى.
[45500]:من ظ ومد، وفي الأصل: بينها.
[45501]:زيد من ظ ومد.
[45502]:زيد من ظ ومد.
[45503]:زيد من ظ ومد.
[45504]:من ظ ومد، وفي الأصل: إنه.
[45505]:من ظ ومد، وفي الأصل: لعلم.
[45506]:زيد من مد.
[45507]:من ظ ومد وفي الأصل: إنه.
[45508]:زيد من ظ ومد.
[45509]:من مد وفي الأصل ظ: عظيم.
[45510]:من مد وفي الأصل ظ: عظيم.
[45511]:زيد من ظ ومد.
[45512]:زيد من ظ ومد.
[45513]:من ظ ومد، وفي الأصل: لمن.
[45514]:في مد: ما.