قوله تعالى : { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس } ، قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالقسطاس بكسر القاف والباقون بضمه ، وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي : بميزان العدل . وقال الحسن : هو القبان . قال مجاهد : هو رومي . وقال غيره : هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل . { المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً } أي : عاقبةً .
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان :
( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا ) . .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن ، أمانة في التعامل ، ونظافة في القلب ، يستقيم بهما التعامل في الجماعة ، وتتوافر بهما الثقة في النفوس ، وتتم بهما البركة في الحياة . ( ذلك خير و أحسن تأويلا ) . . خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة .
والرسول [ ص ] يقول : " لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك " .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة ، ويتبعها الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة ، فيرتد هذا على الأفراد ؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وهو كسب ظاهري ووقتي ، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي ، أو الحافز الديني هو الباعث عليها ؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقادا . . أن هذا يحقق أهداف ذاك ؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ، ومجالاته الرحيبة .
{ وأوفوا الكيل إذا كِلتم } ولا تبخسوا فيه { وزنوا بالقسطاس المستقيم } بالميزان السوي ، وهو رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن ، لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربيا . وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف هنا في " الشعراء " . { ذلك خير وأحسن تأويلا } وأحسن عاقبة تفعيل من آل إذا رجع .
وقوله تعالى : { وأوفوا الكيل } الآية ، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم ، وروي عن ابن عباس أنه كان يقف في السوق ويقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم ، هذا المكيال وهذا الميزان .
قال القاضي أبو محمد : وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع ، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل ، هذا ظاهر اللفظ والسابق منه ، و { القسطاس } قال الحسن هو القبان ، ويقال القفان وهو القلسطون ، ويقال القرسطون ، وقيل : «القسطاس » الميزان صغيراً كان أو كبيراً ، وقال مجاهد { القسطاس } العدل ، وكان يقول هي لغة رومية ، فكأن الناس قيل لهم زنوا بمعدلة في وزنكم ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «القُسطاس » بضم القاف ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «القِسطاس » بكسر القاف ، وهما لغتان ، واللفظة منه للمبالغة من القسط{[7567]} ، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت ، قال أبو حاتم إنما قرأ بكسر القاف أهل الكوفة ، وكل قراءة لا تجاوز الكوفة إلى الحرمين والبصرة فاقرأ بغيرها ، وقرأت فرقة «القصطاس » بالصاد .
قال القاضي أبو محمد : وكان مذهب مجاهد في هذا وفي ميزان القيامة ، وكل ذلك أنها استعارات للعدل ، وقوله : في ميزان القيامة مردود ، وعقيدة أهل السنة أنه ميزان له عمود وكفتان .
وسمعت أبي رضي الله عنه يقول رأيت الواعظ أبا الفضل الجوهري في جامع عمرو بن العاص يعظ الناس في الوزن فقال في جملة كلامه إن هيئة اليد بالميزان عظة وذلك أن الأصابع تجيء منها صورة المكتوبة ألف ولامان وهاء فكأن الميزان يقول الله الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وعظ جميل ، و «التأويل » في هذه الآية المآل . قاله قتادة ، ويحتمل أن يكون «التأويل » مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن ، والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق ، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذاً لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه ، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع .
هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها . وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام .
وزيادة الظرف في هذه الآية وهو { إذا كلتم } دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في ( إذا ) من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط ( إذا ) الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له . ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع .
وفعل ( كال ) يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل ، فهو الذي يدفع الشيء المكيل ، وهو بمنزلة البائع ، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل : مكتال . وهو من أخوات باع وابتاع ، وشرى واشترى ، ورهن وارتهن ، قال تعالى : { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [ المطففين : 2 ، 3 ] .
و القُسطاس بضم القاف في قراءة الجمهور . وقرأه بالكسر حفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف . وها لغتان فيه ، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن ، واسم للعدل ، قيل : هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط ، أي عدل ، وطاس وهوَ كفة الميزان . وفي صحيح البخاري } « وقال مجاهد : القُسطاس : العدل بالرومية » . ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين . وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيَّره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية . ومن أمثالهم « أعجمي فالعَب به ما شئت » .
ومعنى العدل والميزان صالحان هنا ، لكن التي في الأنعام جاء فيها { بالقِسط } فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم . والباء هنالك للملابسة . وهذه الآية جاءت خطاباً للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن ، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومىء إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه . فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة ، ومفيدة للملابسة أيضاً .
والمستقيم : السوي ، مشتق من القَوام بفتح القاف وهو اعتدال الذات . يقال : قومته فاستقام . ووصف الميزان به ظاهر . وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة .
وجملة { ذلك خير } مستأنفة . والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي { كلتم } و { زنوا } .
و { خير } تفضيل ، أي خير من التطفيف ، أي خير لكم . فضل على التطفيف تفضيلاً لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف ، وهو أيضاً أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال .
والتأويل : تفعيل من الأول ، وهو الرجوع . يقال : أولَه إذا أرجعه ، أي أحسن إرجاعاً ، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه ، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحاً استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح ، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها ، فأطلق على استقرار الرأي بعد التأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل ، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة .
ومعنى كون ذلك أحسنَ تأويلاً : أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف ، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحتَ في ماله مع احتقار نفسه في نفسه ، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضَى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله فهو أحسن تأويلاً . وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس}، يعني: بالميزان بلغة الروم،
{المستقيم ذلك} الوفاء، {خير} من النقصان،
{وأحسن تأويلا}، يعني: وخير عاقبة في الآخرة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَ" قضى أن "أوْفُوا الكَيْلَ "للناس "إِذَا كِلْتُمْ" لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسُوهم "وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ" يقول: وقَضَى أن زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس؛ فقال بعضهم: هو القبان
وقال آخرون: هو الميزان صغر أو كبر...
وقوله "ذلكَ خَيْرٌ" يقول: إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل، ووزنكم بالعدل لمن توفون له خَيْرٌ لَكُمْ من بخسكم إياهم ذلك، وظلمكموهم فيه.
وقوله "وأحْسَنُ تَأْوِيلا" يقول: وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم، فيُحسن لكم عليه الجزاء... عن قتادة (وأحْسَنُ تَأْوِيلا) قال: عاقبة وثوابا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر تخصيص الكيلي والوزني من بين سائر الأشياء، يحتمل وجهين:
أحدهما: لما بهما تجرى عامة معاملة الناس، فأمرهم بإيفاء ذلك.
والثاني: لخوف الربا الكيلي والوزني، هما اللذان يكونان دينا في الذمة، فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان دينا في الذمة؛ فإن نقص، أو زاد، فيكون ربا. لذلك خص، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء...
{ذلك خير وأحسن تأويلا} يحتمل قوله: {ذلك خير} ما ذكر من توفير الكيل وإيفاء الحقوق خير في الدنيا لما فيه أمن لهم من الناس {وأحسن تأويلا} عاقبة في الآخرة. ويحتمل قوله {ذلك خير} ما ذكر في هذه من أولها إلى آخرها إذا ما عملوا بها خير لهم في الدنيا {وأحسن تأويلا} أي عاقبة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وأوفوا الكيل} الآية، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم... وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل... واللفظة منه [أي القسطاس] للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت... ويحتمل أن يكون «التأويل» مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن... والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذاً لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ} يُرِيدُ أَعْطُوهُ بِالْوَفَاءِ، وَهُوَ التَّمَامُ، لَا بَخْسَ فِيهِ، بِالْقِسْطِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ...
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} يَعْنِي الْمِيزَانَ الْعَدْلَ...
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}... مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْوَفَاءَ فِي الْكَيْلِ أَفْضَلُ لِلتَّاجِرِ وَأَكْرَمُ لِلْبَائِعِ من طَلَبِ الْحِيلَةِ فِي الزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَالنُّقْصَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةٍ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال: {إذا كلتم} أي لغيركم، فإن اكتلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم توفوا الكيل... {وزنوا} أي وزناً متلبساً {بالقسطاس} أي ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين، وزاد في تأكيد معناه فقال تعالى: {المستقيم} دون شيء من الحيف على ما مضى في الكيل سواء... {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة الذي أمرناكم به... {خير} لكم في الدنيا والآخرة وإن تراءى لكم أن غيره خير... {وأحسن تأويلاً} أي عاقبة في الدارين، وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع، وأفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة لإرخاء العنان، أي على تقدير أن يكون في كل منهما خير...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِذا كِلْتُمْ} أي وقت كيلِكم للمشترين وتقييدُ الأمر بذلك لما أن التطفيفَ هناك يكون وأما وقت الاكتيالِ على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ}... {المستقيم} أي العدْلِ السويّ ولعل الاكتفاءَ باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامتِه لا يتصور الجَوْرُ غالباً بخلاف الكيل فإنه كثيراً ما يقع التطفيفُ مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاءَ بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءَه لا يُتصوَّر بدون تعديل المكيالِ وقد أُمر بتقويمه أيضاً في قوله تعالى: {أَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط}... {ذلك} أي إيفاءُ الكيلِ والوزن بالميزان السوي...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
(القسطاس): هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال و الميزان على تعدد أنواعهما... (والمستقيم): الصحيح الذي لا عيب فيه مما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل، ككسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه... (والخير): النافع... و بين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله:"إذا كلتم"، على سبيل التأكيد حتى لا يتأخر الوفاء عن الكير، بأن يكمل ما نقص، أو يرد ما زاد، فإن الذي يفصل الحق، ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل... رغب الله تعالى في الإيفاء بوجهين: الأول: أنه (خير) فيفيد العدل والحق، و أكل الحلال، و راحة البال. و فيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر. و فيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة. وهذه كلها وجوه نفع وخير. الثاني: أنه (أحسن) عاقبة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ويؤخذ من عموم المعنى النهي عن كل غش في ثمن أو مثمن أو معقود عليه والأمر بالنصح والصدق في المعاملة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة، ويتبعها الكساد، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة، فيرتد هذا على الأفراد؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف. وهو كسب ظاهري ووقتي، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(إذا) الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له... وفعل (كال) يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل، فهو الذي يدفع الشيء المكيل، وهو بمنزلة البائع، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل: مكتال... وهو [أي القسطاس] اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل... ومعنى العدل والميزان صالحان هنا، لكن التي في الأنعام جاء فيها {بالقِسط} فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم. والباء هنالك للملابسة. وهذه الآية جاءت خطاباً للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومىء إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه. فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة، ومفيدة للملابسة أيضاً... وجملة {ذلك خير} مستأنفة. والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي {كلتم} و {زنوا}...
و {خير} تفضيل، أي خير من التطفيف، أي خير لكم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن ذكر الكيل والميزان لأنهما حسيان، ولكنهما رمز لكل المعاملات التي تكون بين الجماعة، فالمعاملة العادلة تربط الناس برباط من القوة لا تنفصم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عامل الناس بما تحب أن يعاملوك"...
والحديث هنا لا يخص الكيل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تقدر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتقاس بها الأشياء كل على حسبه، فالكتاب مثلاً يقاس بالسنتيمتر، والحجرة تقاس بالمتر، أما الطريق فيقاس بالكيلومتر وهكذا... {وأوفوا الكيل إذا كلتم}: يعني: أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص... {وزنوا بالقسطاس المستقيم}: والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حقه، هكذا: {وأوفوا الكيل}: أما في الوزن فقد ركز على دقته، وجعله بالقسطاس، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم... لذلك من معاني (القسطاس المستقيم) أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون...