ثم ضرب مثلاً للمنافقين واليهود جميعاً في تخاذلهم فقال :{ كمثل الشيطان } أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم ، كمثل الشيطان ، { إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك } وذلك ما روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال : كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة ، لم يعص الله فيها طرفة عين ، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : ألا أجد أحداً منكم يكفيني أمر برصيصا ؟ فقال الأبيض -وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فدفعه جبرائيل إلى أقصى أرض الهند- فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك أمره ، فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في عشرة أيام مرة . فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان ، فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لم يجبه ، فقال له : إنك ناديتني وكنت مشتغلاً عنك ، فما حاجتك ؟ قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك ، فأتأدب بك وأقتبس من عملك وعلمك ، ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك ، فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً بعدها ، فلما انفتل رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده قال له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته ، فأقام معه حولاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً ولا ينفتل عن صلاته إلا في كل أربعين يوماً مرة ، وربما مد إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض . فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت ، فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته للذي رأى من شدة اجتهاده ، فلما ودعه قال له الأبيض : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه يشفي الله بها السقيم ويعافي بها المبتلي والمجنون ، قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف إن علم به الناس شغلوني عن العبادة ، فلم يزل به الأبيض حتى علمه . ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : قد والله أهلكت الرجل . قال : فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه ؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه ، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الأعظم الذي إذا دعا به أجيب ، فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان ، فكان الأبيض يفعل مثل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا ، فيدعو فيعافون ، فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل بين ثلاثة إخوة وكان أبوهم ملكهم ، فمات واستخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل ، فعذبها وخنقها ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب فقال لهم : أتريدون أن أعالجها ؟ قالوا : نعم ، قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ، ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده إذا جاء شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت وتردونها صحيحة ، قالوا : ومن هو ؟ قال برصيصا ، قالوا : وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك ؟ قال : فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جانب صومعته حتى تشرفوا عليه ، فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعته ، ثم قولوا له هي أمانة عندك ، فاحتسب فيها . قال : فانطلقوا إليه فسألوه فأبى عليهم ، فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ووضعوا الجارية في صومعته ، وقالوا : هذه أختنا أمانة فاحتسب فيها ، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاين الجارية وما بها من الحسن والجمال ، فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم ، ثم أقبل في صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها ، وكانت تكشف عن نفسها ، فجاءه الشيطان وقال واقعها فستتوب بعد ذلك ، والله تعالى غفار الذنوب والخطايا ، فتدرك ما تريد من الأمر ، فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها ، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب ؟ فإن سألوك فقل : ذهب بها شيطانها ، فلم أقدر عليه . فدخل فقتلها ، ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل ، فجاء الشيطان ، وهو يدفنها ليلاً ، فأخذ بطرف إزارها ، فبقي طرف خارجاً من التراب ، ثم رجع برصيصا إلى صومعته فأقبل على صلاته ، إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم ، وكانوا يجيئون في طرف الأيام يسألون عنها ويوصونه بها ، فقالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا ؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه ، فصدقوه وانصرفوا ، فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا وإنه خاف منكم ، فقتلها ودفنها في موضع كذا وكذا ، فقال الأخ في نفسه : هذا حلم ، وهو من عمل الشيطان ، فإن برصيصا خير من ذلك . قال : فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث . فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك فقال الأوسط مثل ما قاله الأكبر ، فلم يخبر أحداً ، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك ، فقال أصغرهم لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا ، وقال الأوسط : وأنا والله قد رأيت مثله وقال الأكبر : وأنا رأيت مثله ، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا : يا برصيصا ما فعلت بأختنا ؟ قال : أليس قد أعلمتكم بحالها ؟ فكأنكم اتهمتموني ؟ فقالوا : والله لا نتهمك ، واستحيوا منه فانصرفوا ، فجاءهم الشيطان فقال : ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا ، وإن طرف إزارها خارج من التراب . فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم ، فمشوا في مواليهم وغلمانهم ، ومعهم الفؤوس والمساحي ، فهدموا صومعته وأنزلوه ، ثم كتفوه فانطلقوا به إلى الملك فأقر على نفسه ، وذلك أن الشيطان أتاه فقال : تقتلها ثم تكابر ، يجتمع عليك أمران : قتل ومكابرة ، اعترف . فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة ، فلما أتاه الأبيض فقال : يا برصيصا أتعرفني ؟ قال : لا ، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ، ويحك ما اتقيت الله في أمانتك ! خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل ، أما استحييت ؟ ، فلم يزل يعيره ، ثم قال في آخر ذلك : ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وفضحت أشباهك من الناس ؟ فإن مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك ، قال : فكيف أصنع قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم فأخرجك من مكانك ! قال : وما هي قال تسجد لي ، قال : ما أستطيع أفعل . قال : بطرفك افعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي كنت أردت منك ، صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك ، { إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } .
ويضرب للمنافقين الذين أغروا إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بالمقاومة ، فانتهوا بهم إلى تلك النهاية البائسة . يضرب لهم مثلا بحال دائمة . حال الشيطان مع الإنسان ، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير :
( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر . فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزاء الظالمين ) . .
وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان ، تتفقان مع طبيعته ومهمته . فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان . وحاله هو هذا الحال !
وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة . فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية ، في مجال حي من الواقع ؛ ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن . فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر ، ولا تستجيش القلوب للاستجابة . وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين !
وبهذا المثل الموحي تنتهي قصة بني النضير . وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات . واتصلت أحداثها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة . وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير ، تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته ، وتفترق روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر بمقدار ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقاس ! !
وقوله تعالى : { كمثل الشيطان } معناه مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير { كمثل الشيطان } والإنسان ، فالمنافقون مثلهم الشيطان وبنو النضير مثلهم الإنسان ، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن { الشيطان } و «الإنسان » في هذه الآية أسماء جنس لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس كما يغوي الشيطان الإنسان ثم يفر منه بعد أن يورطه ، كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبوت ووعدوهم النصر ، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال ، وذهب قوم من رواة القصص أن هذا شيطان مخصوص مع عابد من العباد مخصوص ، وذكر الزجاج أن اسمه برصيص ، قالوا إنه استودع امرأة وقيل سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون فسول له الشيطان الوقوع عليها فحملت ، فخشي الفضيحة ، فسول له قتلها ودفنها ، ففعل ثم شهره ، فلما استخرجت المرأة وحمل العابد شر حمل وهو قد قال : إنها قد ماتت فقمت عليها ودفنتها ، فلما وجدت مقتولة علموا كذبه فتعرض له الشيطان فقال له : اكفر واسجد لي وأنجيك ، ففعل وتركه عند ذلك .
وقال :{ إني بريء منك } ، وهذا كله حديث ضعيف ، والتأويل الأول هو وجه الكلام وقول الشيطان : { إني أخاف الله } ، رياء من قوله وليست على ذلك عقيدته ، ولا يعرف الله حق معرفته ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلا آخر .
هذا مثل آخر لمُمَثَّل آخر ، وليس مثلاً منْضمًّا إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفاً عليه بالواو ، أو ب ( أو ) كقوله تعالى { أو كصيّب من السماء } [ البقرة : 19 ] .
والوجه : أن هذا المثل متصل بقوله : { ولهم عذاب أليم } [ الحشر : 15 ] كما يفصح عنه قوله في آخره : { فكان عاقبتهما أنهما في النار } الآية ، أي مثلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معاً في النار .
فجملة { كمثل الشيطان } حال من ضمير { ولهم عذاب أليم } [ الحشر : 15 ] أي في الآخرة .
والتعريف في { الشيطان } تعريف الجنس وكذلك تعريف « الإنسان » . والمراد به الإنسان الكافر .
ولم تُرد في الآخرة حادثة معيَّنة من وسوسة الشيطان لإِنسان معيَّن في الدنيا ، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول : { فلمّا كَفَرَ قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } ، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله : { قال إني بريء منك } أنه يقوله للإِنسان ، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد . فالحق : أن قول الشيطان هذا هو ما في آية { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل } في سورة [ إبراهيم : 22 ] .
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية . ذكرها ابن جرير والقرطبي وضَعَّف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالاً لما يقع من الشيطان للإِنسان كما مال إليه ابنُ كثير .
فالمعنى : إذ قال للإِنسان في الدنيا : اكفر ، فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال الشيطان يوم القيامة : { إني بريء منك } ، أي قال كل شيطان لقرينه من الإِنس : { إنّي بريء منك } طمعاً في أن يكون ذلك منجيه من العذاب .
ففي الآية إيجاز حذف حُذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط ( لَمَّا ) هي داخلة في الشرط إذ التقدير : فلما كفر واستمر على الكفر وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان : { إني بريء منك } الخ . وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة [ ق : 27 ] . { قال قرينه ربّنا ما أطغيته } الآية . وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثلا، حين غروا اليهود فتبرؤوا منهم عند الشدة وأسلموهم، فقال:
{كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{كَمَثلِ الشّيْطانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قال إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّهَ رَبّ العَالمِينَ}: مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من النضير النصرة، إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أُخرجوا، ومثل النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد، وإسلامهم إياهم عند شدّة حاجتهم إليهم، وإلى نُصرتهم إياهم، كمثل الشيطان الذي غرّ إنْسانا، ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة إليه، فكفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نُصرته، أسلمه وتبرأ منه، وقال له: إني أخاف الله ربّ العالمين في نُصرتك.
وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال الله جلّ ثناؤه" إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ "هو إنسان بعينه، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به؟
فقال بعضهم: عُنِي بذلك إنسان بعينه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك الناس كلهم، وقالوا: إنما هذا مثل ضُرِب للنضير في غرور المنافقين إياهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {إني بريء منك} يجوز أن يكون في الآخرة حين يقول: {ما أنا 22 بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم:]. ويجوز أن يكون في الدنيا، وهو قوله: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} الآية [الأنفال: 48].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَمَثَلِ الشيطان} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر؛ وقوله لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله {إِنِّي بريء مِّنكَم} [الأنفال: 48].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالمنافقون مثلهم الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان. وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن الشيطان والإنسان في هذه الآية أسماء جنس، لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس، كما يغوي الشيطان الإنسان، ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبوت، ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم، تركهم المنافقون في أسوأ حال.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وليس قول الشيطان: {إني أخاف الله رب العالمين} حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: {إني بريء منك}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كمثل} أي مثل الكل: الواعدين بالنصر والمغترين بوعدهم، مع علمهم بأن الله كتب في الذكر: {لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] في إخلافهم الوعد وإسلامهم إياهم عند ما حق الأمر، يشبه مثل {الشيطان} أي البعيد من كل خير لبعده من الله المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين.
{إذا قال للإنسان} وهو هنا مثل اليهود: {اكفر} أي بالله، بما زين له ووسوس إليه من اتباع الشهوات القائم مقام الأمر.
ولما كان الإنسان بما يساعد تزيين الشيطان عليه من شهواته وحُظوظه وأخلاقه يطيع أمره غالباً قال: {فلما كفر} أي أوجد الكفر على أي وجه كان، ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه.
{قال} أي الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين: {إني بريء منك} أي ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً، ظناً منه أن هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لأمره، وذلك كناية عن أنه فعل معه من الإعراض عنه والتمادي في كل ما يدل على إهماله من أكد البراءة منه، وذلك كما فعل المنافقون باليهود؛ جرؤوهم على أمر ينهى وهو الإقامة في بلدهم، فلما نصبوا الحرب طمعاً في نصرهم، فعل المنافقون بتباطؤهم عنهم فعل المتبرئ منهم، فكان ذلك أشد عليهم مما لو لم يطمعوهم في نصرهم؛ لأن هذا بمنزله انهزامهم عنهم من الصف الموجب لانهزامهم لا محالة.
ثم علل البراءة بقوله: {إني أخاف الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فلا تطاق صولته.
ثم شرح ذلك بقوله: {رب العالمين} أي الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئاً إلا بإذنه، وهو لا يغفر أصلاً لمن يقدح ربوبيته، ولا سيما إن نسبها إلى غيره.
وكان هذا كمثل ما يجد الإنسان بعد الوقوع في المعصية من الندم والحيرة، فإذا وجد ذلك وهم بالتوبة، زين له المعصية وصعب عليه أمر التوبة وعسره، وجرأه على المعصية بعينها أو على ما هو أكبر منها، ولا يزال كذلك حتى يتعذر عليه الرجوع فيتحقق هلاكه وهلاك من أوقعه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يضرب لهم مثلا بحال دائمة. حال الشيطان مع الإنسان، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير. وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان، وحاله هو هذا الحال! وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة؛ فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية، في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة. وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} في سورة [إبراهيم: 22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية؛ ذكرها ابن جرير والقرطبي، وضَعَّف ابن عطية أسانيدها، فلئن كانوا ذكروا القصة، فإنما أرادوا أنها تصلح مثالاً لما يقع من الشيطان للإِنسان، كما مال إليه ابنُ كثير.
وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ}.. وذلك هو مثل المنافقين الذين يضللون الناس في وعودهم الكاذبة، حيث يثيرون الكثير من الأحلام والأوهام، حتى يخيل لهؤلاء الناس أن المنافقين يمثلون الضمانة القوية في ما يعدون أو يتحدثون، فيندفعون إلى ما أثاروه في أحلامهم وأوهامهم بكل ثقةٍ وعزيمةٍ، حتى إذا دخلوا في دائرة اللعبة النفاقية، واجهتهم الحقيقة بأن كل تلك الوعود سراب، ورأوا أن المنافقين يبتعدون عنهم وعن تحمل مسؤوليتهم ويتبرؤون من علاقتهم بكل ما يحدث لهم، لأنهم يخافون من الأخطار المترتبة عليهم من خلال ذلك. وهذا هو الأسلوب الشيطاني في علاقته بالإنسان، فإنه يزين له الكفر بمختلف الوسائل التي يملكها في إثارة الشبهات حول الإيمان، وفي تأكيد الفكر الكافر بطريقته الخاصة، ويضمن له النتائج السعيدة بالخيالات الواسعة والأوهام الرائعة، حتى إذا سقط الإنسان أمام كل تلك الإغراءات الفكرية والتهاويل العاطفية، ووقع في قلب التجربة التي يواجه بها عذاب الله، تبرأ منه، {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} فلا مسؤولية لي بما كفرت وانحرفت، لأنك تملك عقلاً تميز به الصواب من الخطأ، وإرادة تؤكد بها موقفك، فكيف تحمِّلني مسؤولية ما فكرت به وأردت السير فيه؟ {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلا أملك معه شيئاً لنفسي فكيف أملكه لك، ولا أستطيع تحمّل أي وضعٍ منحرف عن رضاه وعن إرادته، لأن ما لديّ من المواقف المنحرفة يكفيني، فليتحمل كل شخص مسؤوليته عن موقفه، وهذا هو ما عبرت عنه الآية الكريمة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُوني وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى أتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.