فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{كَمَثَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ إِذۡ قَالَ لِلۡإِنسَٰنِ ٱكۡفُرۡ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (16)

ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر فقال :

{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ( 16 ) فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ( 17 ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بنا تعملون ( 18 ) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ( 19 ) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ( 20 ) } .

{ كمثل الشيطان } وقيل : المثل الأول خاص باليهود ، والثاني بالمنافقين أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال ، أو تخاذلهم وعدم تناصرهم ، كمثل الشيطان ، والمراد به حقيقته لا شيطان الإنس ، وقيل : الثاني بيان للأول ، ثم بين سبحانه وجه الشبه فقال : { إذ قال للإنسان اكفر } أي أغراه بالكفر : وزينه له وحمله عليه ، والمراد بالإنسان هنا جنس من أطاع الشيطان من نوع الإنسان ، كما قال مجاهد : المراد بالإنسان هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم ، وقيل : هو أبو جهل ، وقيل : هو عابد كان في نبي إسرائيل حمله الشيطان على الكفر فأطاعه وهو برصيصا والأول أولى .

" عن علي بن أبي طالب أن رجلا كان يتعبد في صومعة ، وان امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها ، فزينت له نفسه فوقع عليها ، فحملت ، فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت ، فقتلها ودفنها ، فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : إني أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له ، فذلك قوله { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر } الآية أخرجه أحمد في الزهد ، والبخاري في تاريخه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي وغيرهم ، قلت : وهذا لا يدل على أن هذا الإنسان هو المقصود بالآية ، بل يدل على أنه من جملة من تصدق عليه ، وقد أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس بأطول من هذا ، وليس فيه ما يدل على أنه المقصود بالآية ، وأخرجه بنحوه ابن جرير عن ابن مسعود ، وعنه قال : ضرب الله مثل الكفار والمنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسيلم { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } .

{ فلما كفر } أي الإنسان مطاوعة للشيطان وقبولا لتزيينه { قال } الشيطان { إني بريء منك } إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرؤ من الشيطان يكون يوم القيامة ، يتبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب كما ينبئ عنه قوله : { إني أخاف الله رب العالمين } وإن أريد به أبو جهل فقوله اكفر عبارة عن قول إبليس يوم بدر : { إني غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } وتبرؤه قوله : يومئذ { إني بريء منكم ، إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله } الآية وهذا تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره ، قيل : وليس قول الشيطان : إني أخاف الله على حقيقته ، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان كذبا ورياء ، وإلا فهو لا يخاف الله ، فهو تأكيد لقوله : { إني بريء منك } قرئ إني بإسكان الياء وبفتحها .