اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كَمَثَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ إِذۡ قَالَ لِلۡإِنسَٰنِ ٱكۡفُرۡ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (16)

قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر } .

هذا مثل ضربه الله للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الرجاء في نصرتهم ، وحذف حرف العطف ولم يقل : وكمثل الشيطان ، لأن حذف حرف العطف كثير ، كقولك : أنت عاقل ، أنت كريم ، أنت عالم{[56045]} .

وقوله : { كَمَثَلِ الشيطان } كالبيان لقوله { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .

فصل :

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الإنسان الذي قال له الشيطان : اكفر ؛ راهب ، نزلت عنده امرأة أصابها لممٌ ليدعو لها فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح ، فدلّ الشيطان قومها على موضعها ، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده إن سجد له أنجاه من هذه الورطة منهم فسجد فتبرّأ منه فأسلمه ، ذكره{[56046]} القاضي إسماعيل ، وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر خبره طويلاً .

وذكر ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { كَمَثَلِ الشيطان } أنه كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا ، قد تعبد في صومعته سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين حتى أعيا إبليس ، وذكر خبر برصيصا بتمامه{[56047]} .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : فضرب الله ذلك مثلاً للمنافقين مع اليهود ، وذلك أن الله - تعالى - أمر نبيه أن يُجلِيَ بني النضير من «المدينة » ، فدس إليهم المنافقون ألاَّ تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم قاتلنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون وتبرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد{[56048]} .

وقيل{[56049]} : المعنى مثل المنافقين في غدرهم لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ] الآية .

وقال مجاهد : المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم{[56050]} .

ومعنى{[56051]} قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر } .

أي : أغواه حتى قال : إنِّي كافر ، وليس قول الشيطان : { إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } حقيقة ، إنما هو على وجه التبرُّؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : { إِنِّي بريءٌ مِّنكَ } .

وفتح الياء من «إني » نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأسكن الباقون{[56052]} .


[56045]:السابق.
[56046]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/296)، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "مكايد الشيطان" والبيهقي في "شعب الإيمان".
[56047]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/296)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
[56048]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/28)، عن ابن عباس.
[56049]:ينظر: الفخر الرازي 29/253، والقرطبي 18/28.
[56050]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/49)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/297)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
[56051]:القرطبي 18/28، 29.
[56052]:ينظر: السبعة 632، والحجة 6/284، والعنوان 188، وشرح الطيبة 6/49، وشرح شعلة 601، وإتحاف 2/531.