تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{كَمَثَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ إِذۡ قَالَ لِلۡإِنسَٰنِ ٱكۡفُرۡ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (16)

ثم ضرب مثلا حين غروا اليهود فتبرؤا منهم عند الشدة وأسلموهم ، فقال :{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } وذلك أنه كان راهبا في بني إسرائيل اسمه برصيصا ، وكان في صومعته أربعين عاما ، يعبد الله ، ولا يكلم أحدا ، ولا يشرف على أحد ، وكان لا يكل من ذكر الله عز وجل ، وكان الشيطان لا يقدر عليه مع ذكره الله تعالى .

فقال الشيطان لإبليس : قد غلبني برصيصا ، ولست أقدر عليه ، فقال إبليس : اذهب ، فانصب له ما نصبت لأبيه من قبل ، وكانت جارية ثلاثة من بني إسرائيل عظيمة الشرف جميلة من أهل بيت صدق ، ولها إخوة فجاء الشيطان إليها ، فدخل في جوفها فخنقها حتى ازبدت ، فالتمس إخواتها لها الأطباء ، وضربوا لها ظهرا وبطنا ويمينا وشمالا ، فأتاهم الشيطان في منامهم ، فقال : عليكم ببرصيصا الراهب ، فليدع لها ، فإنه مستجاب الدعاء ، فلما أصبحوا ، قال بعضهم لبعض : انطلقوا بأختنا إلى برصيصا الراهب ، فليدع لها ، فإنا نرجوا البركة في دعائه ، فانطلقوا بها إليه ، فقالوا : يا برصيصا أشرف علينا ، وكلمنا فإنا بنو فلان ، وإنما جئنا لباب حسنة ، وأجر ، فأشرف فكلمهم وكلموه ، فلما رد عليها وجد الشيطان خللا فدخل في جوفه ، ووسوس إليه ، فقال : يا برصيصا هذا باب حسنة وأجر ، تدعو الله لها فيشفيها ، فأمرهم أن يدخلوها الحربة وينطلقوا هم ، فأدخلوها الحربة ومضوا ، وكان برصيصا لا يتهم في بني إسرائيل ، فقال له الشيطان : يا برصيصا انزل فضع يدك على بطنها ، وناصيتها ، وادع لها ، فما زال به حتى أنزله من صومعته ، فلما نزل خرج منه ، فدخل في جوف الجارية فاضطربت ، وانكشفت ، فلما رأى ذلك ، ولم يكن له عهد بالنساء وقع بها .

قال الشيطان : يا برصيصا يا أعبد بني إسرائيل ما صنعت ؟ الزنا بعد العبادة يا برصيصا ؟ إن هذه تخبر أخواتها بما أتيت لها فتفتضح في بني إسرائيل فاعمد إليها ، فاقتلها وادفنها في التراب ، ثم اصعد إلى صومعتك ، وتب إلى الله ، وتعبد فإذا جاء أخوتها ، فسألوا عنها ، فأخبرهم أنك دعوت لها ، وأن الجني طار عنها ، وأنهم طاروا بها ، فمن هذا الذي يتهمك في بني إسرائيل ، فقتلها ودفنها في الخربة ، فلما جاء إخوتها ، قالوا : أين أختنا ؟ فقال : أختكم طارت بها الجن ، فرجعوا وهم لا يتهمونه ، فأتاهم الشيطان في المنام ، فقال : إن برصيصا قد فضح أختكم ، فلما أصبحوا جعل كل واحد منهم يكلم صاحبه بما رأى ، فتكلم بما رأى ، فقال الآخر : لقد رأيت مثل ما رأيت ، فقال الثالث : مثل ذلك ، فلم يرفعوا بذلك رأسا حتى رأوا ثلاث ليال ، فانطلقوا إلى برصيصا ، فقالوا : أين أختنا ؟ فقال : لا أدري طارت بها الجن ، فدخلوا الخربة ، فإذا هم بالتراب ناتئ في الخربة فضربوه بأرجلهم فإذا هم بأختهم فأتوه ، فقالوا : يا عدو الله ، قتلت أختنا ، فانطلقوا إلى ذلك فأخبروه ، فبعث إليه فاستنزله من صومعته ، ونحتوا له خشبه ، فأوثقوه عليها فأتاه الشيطان ، فقال : أتعرفني يا برصيصا ، قال : أي ، قال : أنا الذي أنزلتك هذه المنزلة ، فإن فعلت ما آمرك به استنقذتك مما أنت فيه ، وأطلعتك إلى صومعتك ؟ قال : وبماذا ؟ قال : أتمثل لك في صورتي ، فتسجد إلى سجدة واحدة وأنجيك مما هنا ؟ قال : نعم ، فتمثل له الشيطان في صورته فسجد له وكفر بالله فانطلق الشيطان ، وتركه ، وقتل برصيصا ، فذلك قوله : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } .