الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{كَمَثَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ إِذۡ قَالَ لِلۡإِنسَٰنِ ٱكۡفُرۡ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (16)

ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود في تخاذلهم فقال عزّ من قائل : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ } الآية .

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الباقرحي قال : حدّثنا الحسن بن علوُية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا مقاتل عن عطاء عن ابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن عباس في قوله سبحانه : { فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } الآية قال : كان راهب في الفترة يُقال له بَرصيصَا وكان قد تعبّد في صومعة لهُ سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فلم يستطيع له شيء فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : ألا أحدٌ منكم يكفيني أمر بَرصيصا ، فقال الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي يتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوسُ إليه على وجهِ الوحي فجاءه جبرائيل حتى دخل بينهما فدفعه بيده دفعة هينةً فوقع من دفعة جبرائيل إلى أقصى أرض الهند ، فذلك قوله سبحانه :

{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20 ] .

فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان وحلق وسط رأسِهِ ثم مضى حتى أتى صومعة بَرصيصا فناداه فلم يجبه برصيصا وكان لا ينفتل عن صلاته إلاّ في كل عشرة أيام ولا يفطر إلاّ في عشرة أيام مرّة ، فكان يواصل الأيام العشرة والعشرين والأكثر ، فلما رأى الأبيض أنَّه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعتهِ فلما أنفتر برصيصا اطّلع من صومعته ورأى الأبيض قائماً مُنتصباً يُصلّي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لها عنه فلم يجبه ، فقال له : إنّك ناديتني وكنت مُشتغلا عنك فحاجتك ؟ قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأنادبك وأقتبس من علمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال : برصيصا : إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سبحانه سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيباً إن استجاب لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، وأقبل الأبيض يُصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً بعدها ، فلمّا انفتل رآه قائماً يصلي ، فلمّا رآى برصيصا شدّة اجتهاده وكثرة تضرّعه وابتهاله الى الله سبحانه كلّمه وقال له : حاجتك ؟ ، قال : حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك ، فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام الأبيض معه حولا يتعبد لا يفطر إلاّ في كل أربعين يوماً ولا ينفتل عن صلاته إلاّ في كل أربعين يوماً مرّة وربّما مدَّ الى الثمانين ، فلما رأى برصيصا أجتهاده تفاطرت إليه نفسه فأعجبه شأن الأبيض ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق فأنَّ لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشدّ اجتهاداً ممّا أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت ، قال : فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد وكره مفارفته للّذي رأى من شدّة اجتهاده ، فلما ودّعه قال له الأبيض : إنَّ عندي دعوات أعلّمكها أياك تدعو بهن فهي خير مما أنت فيه ، يشفي الله بها السقيم ، ويعافي بها المبتلى والمجنون ، قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة ، لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إنْ علم بهذا الناس شغلوني عن العبادة ، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه ، ثم انطلق حتى أتى أبليس فقال له : قد والله أهلكتُ الرجل ، قال : فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال لأهله : إنَّ بصاحبكم جنوناً فأعالجه ؟ قالوا : نعم ، فقال لهم : إني لا أقوى على جنِّيَته ولكن سأرشدكم الى من يدعو الله عزّ وجلّ فيعافى ، فقالوا له : دلّنا ، فانطلقوا الى برصيصا فإنَّ عنده أسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، قال : فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنهُ الشيطان ، وكان يفعل الأبيض بالناس مثل ، من مكانك قال : وما هي ؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك الى أن كفرت بربّك فلما كفر قال : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } .