قوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت } نفرت ، وقال ابن عباس ، ومجاهد ، ومقاتل : انقبضت عن التوحيد . وقال قتادة : استكبرت . وأصل الاشمئزاز النفور ، والاستكبار . { قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه } يعني : الأصنام { إذا هم يستبشرون } يفرحون . قال مجاهد ، ومقاتل : وذلك حين قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة والنجم فألقى الشيطان في أمنيته تلك الغرانيق العلى ففرح به الكفار .
وفي هذا الموقف الذي يتفرد فيه الله سبحانه بالملك والقهر يعرض كيف هم ينفرون من كلمة التوحيد ويهشون لكلمة الشرك ، الذي ينكره كل ما حولهم في الوجود :
( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) .
والآية تصف واقعة حال على عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم ؛ وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد . ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان . فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى الله وحده إلهاً ، وإلى شريعة الله وحدها قانوناً ، وإلى منهج الله وحده نظاماً . حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث ، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد . هؤلاء هم بعينهم الذين يصور الله نموذجاً منهم في هذه الآية ، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان . هم الممسوخو الفطرة ، المنحرفو الطبيعة ، الضالون المضلون ، مهما تنوعت البيئات والأزمنة ، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام .
{ وإذا ذكر الله وحده } دون آلهتهم . { اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } انقبضت ونفرت . { وإذا ذكر الذين من دونه } يعني الأوثان . { إذا هم يستبشرون } لفرط افتتانهم بها ونسيانهم حق الله ، ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما ، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ، والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه ، والعامل في { إذا ذكر } العامل في إذ المفاجأة .
وقوله تعالى : { وإذا ذكر الله وحده } الآية ، قال مجاهد وغيره : نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار ، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته ، فقال : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ، إنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهم لترتجى } [ النجم : 19 ] فاستبشر الكفار بذلك وسروا ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان ، أنفوا واستكبروا و اشمأزت نفوسهم{[9907]} ، ومعناه تقبضت كبراً أو أنفة وكراهية ونفوراً ، ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
إذا عض الثقاف بها اشمأزت . . . وولته عشوزنة زبونا{[9908]}
و : { الذين من دونه } يريد الذين يعبدون من دونه ، وجاءت العبارة في هذه الآية عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل ، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية ، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل . و : { وحده } منصوب عند سيبويه على المصدر ، وعند الفراء على الحال .
عطف على جملة { اتخذوا من دون الله شفعاء } [ الزمر : 43 ] لإِظهار تناقضهم في أقوالهم المشعر بأن ما يقولونه أقضية سُفسطائية يقولونها للتنصل من دمغات الحجج التي جبهَهُم بها القرآن ، فإنهم يعتذرون تارة على إشراكهم بأن شركاءهم شفعاء لهم عند الله . وهذا يقتضي أنهم معترفون بأن الله هو إلههم وإله شركائهم ، ثم إذا ذكَر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله واحد أو ذكر المسلمون كلمة لا إله إلا الله اشمأزّت قلوب المشركين من ذلك . وكذلك إذا ذكر الله بأنه إله الناس ولم يذكر مع ذكره أن أصنامهم شركاء لله اشمأزت قلوبهم من الاقتصار على ذكر الله فلا يرضون بالسكوت عن وصف أصنامهم بالإِلهية وذلك مؤذن بأنهم يسوُّونها بالله تعالى .
فقوله : { وحْدَهُ } لك أن تجعله حالاً من اسم الجلالة ومعناه منفرداً . ويقدر في قوله : { ذُكِر الله } معنى : ذكر بوصف الإِلهية ويكون معنى { ذُكِر الله وَحْده } ذُكر تفرده بالإلهية . وهذا جار على قول يونس بن حبيب في { وحده } . ولك أن تجعله مصدراً وهو قول الخليل بن أحمد ، أي هو مفعول مطلق لفعللِ { ذُكِرَ } لبيان نوعه ، أي ذِكْراً وحْداً ، أي لم يذكر مع اسم الله أسماء أصنامهم . وإضافة المصدر إلى ضمير الجلالة لاشتهار المضاف إليه بهذا الوحْد . وهذا الذكر هو الذي يجري في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصلوات وتلاوة القرآن وفي مجامع المسلمين .
ومعنى { إذا ذُكر الذين من دونه } إذا ذُكرت أَصنامهم بوصف الإِلهية وذلك حين يسمعون أقوال جماعة المشركين في أحاديثهم وأيمانهم باللات والعزى ، أي ولم يذكر اسم الله معها فاستبشارهم بالاقتصار على ذكر أصنامهم مؤذن بأنهم يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تعالى . والذكر : هو النطق بالاسم . والمراد إذا ذكَر المسلمون اسم الله أشمأز المشركون لأنهم لم يسمعوا ذكر آلهتهم وإذا ذكر المشركون أسماء أصنامهم استبشر الذين يسمعونهم من قومهم . والتعبير عن آلهتهم ب { الذين من دونه } دونَ لفظ : شركائهم أو شفعائهم ، للإِيماء إلى أن علة استبشارهم بذلك الذكر هو أنه ذكر من هم دون الله ، أي ذِكر مناسب لهذه الصلة ، أي هو ذكر خاللٍ عن اسم الله ، فالمعنى : وإذا ذكر شركاؤُهم دُون ذِكر الله إذا هم يستبشرون .
والاقتصار على التعرض لهذين الذكرين لأنهما أظهر في سوء نوايا المشركين نحو الله تعالى ، وفي بطلان اعتذارهم بأنهم ما يعبدون الأصنام إلا ليقربُّوهم إلى الله ويشفعوا لهم عنده ، فأما الذكر الذي يذكر فيه اسم الله وأسماءُ آلهتهم كقولهم في التلبية : لبَيْك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملِكه وما ملك ، فذلك ذكر لا مناسبة له بالمقام .
وذكَر جمع من المفسرين لقوله : { إذا ذكر الذين من دونه } أنه إشارة إلى ما يُروى من قصة الغرانيق ، ونسب تفسير ذلك بذلك إلى مجاهد ، وهو بعيد عن سياق الآية .
ومن البناء على الأخبار الموضوعة فللَّه در من أعرضوا عن ذكر ذلك .
والاشمئزار : شدة الكراهية والنفورِ ، أي كرهتْ ذلك قلوبهم ومداركهم .
والاستبشار : شدة الفرح حتى يظهر أثر ذلك على بَشَرة الوجه ، وتقدم في قوله : { وجاء أهل المدينة يستبشرون } في سورة [ الحِجر : 67 ] .
ومقابلة الاشمئزاز بالاستبشار مطابقة كاملة لأن الاشمئزاز غاية الكراهية والاستبشار غاية الفرح .
والتعبير عن المشركين بالذين لا يؤمنون بالآخرة } لأنهم عُرفوا بهذه الصلة بين الناس مع قصد إعادة تذكيرهم بوقوع القيامة .
و { إذا } الأولى و { إذا } الثانية ظرفان مضمنان معنى الشرط كما هو الغالب . و { إذا } الثالثة للمفاجأة للدلالة على أنهم يعاجلهم الاستبشار حينئذٍ من فرط حبهم آلهتهم . ولذلك جيء بالمضارع في { يستبشرون } دون أن يقال : مستبشرون ، لإِفادة تجدّد استبشارهم .