اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحۡدَهُ ٱشۡمَأَزَّتۡ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ} (45)

قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } نفرت ، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : أي انْقَبَضَتْ عن التَّوحيد وقال قتادة استكبرتْ ، وأصل الاشمئزاز النُّفور والاسْتِكبَار{[47510]} { قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } وهذا نوع آخر من أعمال المشركين القبيحة { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } يعني الأصنام { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يعني يفرحون . قال مجاهد ومقاتل : وذلك حين قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة والنجم فألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّةِ «تلك الغَرَانيق{[47511]} العُلاَ » ففرح به الكفار .

قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين } قال الزمخشري : فإن قلت : ما العامل في : «إذَا ذُكِرَ » ؟

قلت : العامل فيه «إذا » الفجائية{[47512]} تقديره وقت ذِكْرِ الَّذِينَ من دونه فَاجَأوا وَقْتَ الاستبشار{[47513]} .

قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين مَعْمولاَن{[47514]} «لِفَاجَأُوا » ثُمَّ «إذا » الأول تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية{[47515]} . وقال الحَوْفي : «إذَا هُمْ يَسْتبشرُونَ » «إذَا » مضافة إلى الابتداء والخبر ، و «إذا » مكررة للتوكيد ، وحذف ما يضاف إليه ، والتقدير : إذا كان ذلك هم يَسْتَبْشِرونَ ، فيكون ( هم يستبشرون ) هو العامل في «إذا » المعنى : إذا كان كذلك استبشروا{[47516]} .

قال أبو حيان : هذا يبعد{[47517]} جداً عن الصواب إذا{[47518]} جعل «إذَا » مضافة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال و «إذا » مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف{[47519]} إليه إلى آخره كلامه . ( فإذا كانت{[47520]} إذا حذف ما يضاف إليه ) فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هو «هم يستبشرون » ! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذق{[47521]} فيه ، انتهى{[47522]} .

قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيه{[47523]} . واختار أبو حيان أن يكون العامل في «إذا » الشرطية الفعل بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زماناً أم مكاناً أما إذا قيل : إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل . وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء{[47524]} .

والاشْمِئزَازُ النفور والتَقَبض{[47525]} ، وقال أبو زيد : هو الذعر{[47526]} ، اشمأزَّ فُلاَنٌ أي ذعر ووزنه افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ ، قال الشاعر :

- إذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اشْمَأَزَّتْ . . . ووَلَّتهُ عَشَوْزَنَه زَبُونَا{[47527]}

قال الزمخشري : ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى يظهر ذلك السرور في أَسِرَّة{[47528]} وجهه ويتهلَّل ، والاشمئزاز أن يعظم «غَمُّه ){[47529]} وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية{[47530]} .


[47510]:قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: 4/356 وانظر أيضا مجاز القرآن لأبي عبيدة 2/190 ولسان العرب لابن منظور "ش م ز" 2324.
[47511]:هي الأصنام وهي في الأصل الذكور من الطير الماء وواحدها غرنوق وغرنيق سمي به لبياضه وقيل: هي الكركي ويجوز أن تكون جمع الغرانق وهو الحسن، وانظر تفاصيل أخرى لها في اللسان "غ ر ن ق" 3249.
[47512]:في الكشاف : العامل في إذا المفاجأة.
[47513]:نقله الكشاف 3/401.
[47514]:في البحر: معمولان لعامل واحد ثم إذا الأولى............
[47515]:وفيه: على المفعول به. وانظر بحر أبي حيان 7/431.
[47516]:المرجع السابق وانظر كذلك الدر المصون لشهاب الدين السمين 4/655.
[47517]:في البحر: فبعيد جدا.
[47518]:نقله المؤلف عن السمين ففي السمين "إذا" المستقبلية وفي البحر "إذ" التعليلية الماضوية.
[47519]:في البحر: تضاف بالتاء.
[47520]:ما بين القوسين زيادة توضيحية من السمين في "الدر" عن البحر المحيط. انظر الدر 4/655.
[47521]:في البحر: والتحدث من الحديث لا من الحذق وما أثبته المؤلف هو ما أثبته صاحب الدر المصون السابق.
[47522]:البحر 7/431، 432.
[47523]:الدر المصون 4/655 وذلك أنه كعادته قد تعقب الزمخشري ومن بعده الحوفي ونسب إليهم عدم التحري والدقة في النحو.
[47524]:انظر البحر المحيط 7/432.
[47525]:انظر: المراجع السابقة.
[47526]:قاله في اللسان: "شمز" 2324.
[47527]:البيت جاهلي اللفظ فهو لعمرو بن كلثوم من معلقته وهو من الوافر والثقاف: ما تقوم به الرماح واشمأزت أي نفرت وهو محل الشاهد هنا حيث إن الاشمئزاز بمعنى النفور والتقبض، وعشوزنة صلبة وزبون تدفع وتضرب برجلها والزبون وصف للعشوزنة يقول: إن رماح قومه قوية تدفع الأعداء فلا ينالون منهم. وانظر: السبع الطوال لابن الأنباري 404 والقرطبي 15/264 بلفظ "وولتهم" . وانظر شرح معلقة عمرو هذه لابن كيسان 85 واللسان "ثقف" 492 والبحر 7/426 والدر 4/655.
[47528]:في الكشاف : بشرة وجهه.
[47529]:تكملة من الكشاف فهي بياض من النسخ.
[47530]:بالمعنى من الكشاف 3/401 وباللفظ من الفخر الرازي الذي نقل عنه رأيه هذا معنى 26/286.