( وإذا أنزلت سورة أن آمنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم ، وقالوا : ذرنا نكن مع القاعدين : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون . لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وأولئك لهم الخيرات ، وأولئك هم المفلحون ، أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، ذلك الفوز العظيم ) . .
إنهما طبيعتان . . طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء . وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء . وإنهما خطتان . . خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون . وخطة الاستقامة والبذل والكرامة .
فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول ، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل . جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها اللّه لهم ، وشكر النعمة التي أعطاها اللّه إياهم ، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن . دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان ، ما دام فيها السلامة ، وطلاب السلامة لا يحسون العار ، فالسلامة هدف الراضين بالدون :
وقوله { وإذا أنزلت سورة } الآية ، العامل في { إذا } { استأذنك } ، «والسورة » المشار إليها هي براءة فيما قال بعضهم ، ويحتمل أن يكون إلى كل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد مع الرسول ، وسورة القرآن أجمع على ترك همزها في الاستعمال واختلف هل أصلها الهمز أم لا فقيل أصلها الهمز فهي من أسأر إذا بقيت له قطعة من الشيء ، فالسورة قطعة من القرآن ، وقيل أصلها أن لا تهمز فهي كسورة البناء وهي ما يبنى منه شيئاً بعد شيء ، فهي الرتبة بعد الرتبة ، ومن هذا قول النابغة : [ الطويل ]
ألم تر أنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سَوْرَةً*** ترى كلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذبْذَبُ
وقد مضى هذا كله مستوعباً في صدر هذا الكتاب ، و { أن } في قوله : { أن آمنوا } يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي فهي على هذا لا موضع لها ، ويحتمل أن يكون التقدير ب «أن » فهي في موضع نصب{[5823]} ، و { الطول } في هذه الآية المال ، قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما ، والإشارة بهذه الآية إلى الجد بن قيس وعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم ، و «القاعدون » الزمنى وأهل العذر في الجملة ومن ترك لضبط المدينة لأن ذلك عذر .
هذا عطف غرض على غرض قصد به الانتقال إلى تقسيم فرق المتخلّفين عن الجهاد من المنافقين وغيرهم وأنواع معاذيرهم ومراتِبها في القبول . دعا إليه الإغلاظ في تقريع المتخلّفين عن الجهاد نفاقاً وتخذيلا للمسلمين ، ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ثم قوله : { لو كان عرضاً قريباً } [ التوبة : 42 ] وكلّ ذلك مقصود به المنافقون .
ولأجل كون هذه الآية غرضاً جديداً ابتدأت بذكر نزول سورة داعية إلى الإيمان والجهاد . والمراد بها هذه السورة ، أي سورة براءة ، وإطلاق اسم السورة عليها في أثنائها قبل إكمالها مجاز متّسع فيه كإطلاق الكتاب على القرآن في أثناء نزوله في نحو قوله : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] وقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] فهذا الوصف وصف مقدّر شبيه بالحال المقدّرة .
وابتدأ بذكر المتخلّفين من المنافقين بقوله : { استأذنك أولوا الطول منهم } .
والسورة طائفة معينة من آيات القرآن لها مبدأ ونهاية وقد مضى الكلام عليها آنفاً وقبيل هذا .
ولمّا كانت السورةُ ألفاظاً وأقوالاً صحّ بيانها ببعض ما حوته وهو الأمر بالإيمان والجهاد فقوله : { أن آمنوا بالله } تفسير للسورة و { أنْ } فيه تفسيرية كالتي في قوله تعالى حكاية عن عيسى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } [ المائدة : 117 ] ويجوز تفسير الشيء ببعضه شبهُ بدل البعض من الكلّ .
وليس المراد لفظ { آمنوا } وما عطف عليه بل ما يراد فهما مثل قوله : { يأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } [ التوبة : 38 ] الآيات وقوله : { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } [ التوبة : 44 ] .
والطَّوْل : السعة في المال قال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طَوْلا أن ينكح المحصنات المؤمنات } [ النساء : 25 ] وقد تقدّم . والاقتصار على الطّول يدلّ على أنّ أولي الطول مراد بهم من له قدرة على الجهاد بصحة البدن . فبوجود الطول انتفى عذرهم إذ من لم يكن قادراً ببدنه لا ينظر إلى كونه ذا طول كما يدلّ عليه قوله بعدُ { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } [ التوبة : 91 ] .
والمراد بأولِي الطول أمثال عبد الله بن أبَيّ بن سَلول ، ومعتّب بن قشير ، والجِدّ بن قيس .
وعطف { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } على { استئذنك } لما بينهما من المغايرة في الجملة بزيادة في المعطوف لأن الاستئذان مجمل ، وقولهم المحكي فيه بيان ما استأذنوا فيه وهو القعود . وفي نظمه إيذان بتلفيق معذرتهم وأنّ الحقيقة هي رغبتهم في القعود ولذلك حكي قولهم بأنْ ابتُدىء ب { ذَرْنا } المقتضي الرغبة في تركهم بالمدينة . وبأن يكونوا تبعاً للقاعدين الذين فيهم العُجَّز والضعفاء والجبناء ، لما تؤذن به كلمة { مع } من الإلحاق والتبعية .
وقد تقدّم أن ( ذَرْ ) أمر من فعل ممات وهو ( وَذَرَ ) استغنَوا عنه بمرادفه وهو ( تَرك ) في قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .