قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } في الدين والولاية ، { فأصلحوا بين أخويكم } إذا اختلفا واقتتلا ، قرأ يعقوب بين إخوتكم بالتاء على الجمع ، { واتقوا الله } فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره ، { لعلكم ترحمون } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي ، أنبأنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله بها عنه كربةً من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " . وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ، يدل عليه ما روي عن الحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل -وهو القدوة- في قتال أهل البغي ، عن أهل الجمل وصفين : أمشركون هم ؟ فقال : لا ، من الشرك فروا ، فقيل : أمنافقون هم ؟ فقال : لا ، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً ، قيل : فما حالهم . قال : إخواننا بغوا علينا . والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ، ونصبوا إماماً فالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته ، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم ، وإن لم يذكروا مظلمة ، وأصروا على بغيهم ، قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته ، ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفف على جريحهم ، نادى منادي علي رضي الله عنه يوم الجمل ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ، وأتي علي رضي الله عنه يوم صفين بأسير فقال له : لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين . وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس أو مال فلا ضمان عليه . قال ابن شهاب : كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول ، وأتلف فيها أموال كثيرة ، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم ، وجرى الحكم عليهم ، فما علمته اقتص من أحد ولا أغرم مالاً أتلفه . أما من لم يجتمع فيهم هذه الشرائط الثلاث بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم ، أو لم يكن لهم تأويل ، أو لم ينصبوا إماماً فلا يتعرض لهم إن لم ينصبوا قتالاً ولم يتعرضوا للمسلمين ، فإن فعلوا فهم كقطاع الطريق . روي أن علياً رضي الله عنه سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد : لا حكم إلا لله ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال .
ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم ، والتي جمعتهم بعد تفرق ، وألفت بينهم بعد خصام ؛ وتذكيرهم بتقوى الله ، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه :
( إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة ، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه ؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف ، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة . وهو إجراء صارم وحازم كذلك .
ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه ، وألا يقتل أسير ، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة ، وألقى السلاح ، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة . لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم ، وإنما هو ردهم إلى الصف ، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية .
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة ، وأنه إذا بويع لإمام ، وجب قتل الثاني ، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام . وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين ؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم . وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة . وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص : " ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك " . . والاحتمال الأول أرجح ، تدل عليه بعض أقوالهم المروية . كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام .
ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين ، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد ، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه . أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه . وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية ، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله . وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال .
وواضح أن هذا النظام ، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق . وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة ! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق ، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى ، ولا يتعلق به نقص أو قصور . . ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج ، وتكبو وتتعثر . وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم !
{ إنما المؤمنون إخوة } من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإصلاح ولذلك كرره مرتبا عليه بالفاء فقال : { فأصلحوا بين أخويكم } ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص ، وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق . وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج . وقرئ " بين إخوتكم " و " إخوانكم " . { واتقوا الله } في مخالفة حكمه والإهمال فيه . { لعلكم ترحمون } على تقواكم .
وقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } يريد إخوة الدين . وقرأ الجمهور من القراء : «بين أخويكم » وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين . وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه : «بين إخوتكم » .
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة : «بين إخوانكم » . وهي حسنة . لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان . والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء . قال الشاعر : [ الطويل ]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم . . . وأي بني الإخاء تنبو مناسبه ؟{[10462]}
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله . فمنه : { إنما المؤمنون إخوة }ومنه { أو بيوت إخوانكم }{[10463]} فهذا جاء على الأقل من الاستعمال .