قوله تعالى : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعف له وله أجر كريم* يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم } يعني على الصراط ، { بين أيديهم وبأيمانهم } يعني عن أيمانهم . قال بعضهم : أراد جميع جوانبهم ، فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة . وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من المؤمنين من يضيء نوره يعني على صراط من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك ، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه " . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نوراً من نوره أعلى إبهامه فيطفأ مرة ويتقد مرة . وقال الضحاك ومقاتل : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم كتبهم ، يريد : أن كتبهم التي أعطوها بأيمانهم ونورهم بين أيديهم .
ثم يعرض لهم صفحة وضيئة من ذلك الأجر الكريم ، في مشهد من مشاهد اليوم الذي يكون فيه ذلك الأجر الكريم .
" والمشهد هنا بإجماله وتفصيله جديد - بين المشاهد القرآنية - وهو من المشاهد التي يحييها الحوار بعد أن ترسم صورتها المتحركة رسما قويا . فنحن الذين نقرأ القرآن اللحظة نشهد مشهدا عجيبا . هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم . ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا . ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم . فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت وأشعت نورا يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها . . إنه النور الذي أخرجها الله إليه وبه من الظلمات . والذي أشرق في أرواحها فغلب على طينتها . أم لعله النور الذي خلق الله منه هذا الكون وما فيه ومن فيه ، ظهر بحقيقته في هذه المجموعة التي حققت في ذواتها حقيقتها !
" ثم ها نحن أولاء نسمع ما يوجه إلى المؤمنين والمؤمنات من تكريم وتبشير : ( بشراكم اليوم جنات تجري
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات ظرف لقوله وله أو فيضاعفه أو مقدر باذكر يسعى نورهم ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة بين أيديهم وبأيمانهم لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين بشراكم اليوم جنات أي يقول لهم من يتلقاهم من الملائكة بشراكم أي المبشر به جنات أو بشراكم دخول جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم الإشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يوم ترى} يا محمد {المؤمنين والمؤمنات} على الصراط {يسعى نورهم بين أيديهم} دليل إلى الجنة {وبأيمانهم} يعني بتصديقهم في الدنيا، أعطوا النور في الآخرة على الصراط، يعني بتوحيد الله تعالى، تقول الحفظة لهم: {بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لا يموتون {ذلك هو الفوز العظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينٌ وَالمُؤْمِناتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أيْدِيهِمْ وبأيمانِهِم"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يضيء نورهم بين أيديهم وبأيمانهم... عن عبد الله، قال: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويقدُ مرّة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى إيمانهم وهداهم بين أيديهم، وبأيمانهم كتبهم... [عن] الضحاك يقول في قوله: "يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أيْدِيهِمْ وَبأيمانِهِمْ": كتبهم، يقول الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه، وأما نورهم فهداهم.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك، وذلك أنه لو عنى بذلك النور الضوء المعروف، لم يخصّ عنه الخبر بالسعي بين الأيدي والأيمان دون الشمائل، لأن ضياء المؤمنين الذي يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي خصوص الله جلّ ثناؤه الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم دون الشمائل، ما يدلّ على أنه معنيّ به غير الضياء، وإن كانوا لا يخلون من الضياء.
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا: وكلاّ وعد الله الحسنى يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير.
ويعني بقوله: "يَسْعَى": يمضي...
وقوله: "بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ" يقول تعالى ذكره يقال لهم: بشارتكم اليوم أيها المؤمنون التي تبشرون بها جنات تجري من تحتها الأنهار، فأبشروا بها.
وقوله: "خالِدِينَ فِيها" يقول: ماكثين في الجنات، لا ينتقلون عنها ولا يتحولون.
وقوله: "ذلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمِ" يقول: خلودهم في الجنات التي وصفها هو النجح العظيم الذي كانوا يطلبونه بعد النجاة من عقاب الله، ودخول الجنة خالدين فيها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}... وجائز أن يكون نورهم الذي ذكر كناية عن الطريق الذي يسلك فيه السابقون يرون ما أمامهم، وسائر المؤمنين عن أيمانهم على ما سلكوا في الدنيا، وأهل الشرك بشمالهم، وأهل النفاق من ورائهم. وجائز أن يكون قوله: {و بأيمانهم} كناية عن اليمن و البركة لأن الأيمان تنال اليمن والبركات، فسماها بذلك. ويحتمل ما ذكر أهل التأويل أنه يرفع لهم نور، فيمشون بذلك. وقوله تعالى: {بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها} إنما يقال ذلك قبل دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
وقوله تعالى: {ذلك هو الفوز العظيم} لأنه لا هلاك بعده، ولا تبعة، ولا انقطاع؛ ذلك لذلك.
ثم قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} ليس أن يراه هو خاصة، لا يرى غيره ذلك، ولكن يرى ذلك جميع المؤمنين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والرؤية في هذه الآية رؤية عين. والنور: قال الضحاك بن مزاحم: هي استعارة، عبارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه. وقال الجمهور: بل هو نور حقيقة، وروي في هذا عن ابن عباس وغيره آثار مضمنها: أن كل مؤمن ومظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نوراً فيطفأ نور كل منافق ويبقى نور المؤمنين. حتى أن منهم من نوره يضيء كما بين مكة وصنعاء، رفعه قتادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من نوره كالنخلة السحوق. ومنهم من نوره يضيء ما بين قرب من قدميه، قال ابن مسعود: ومنهم من يهم بالانطفاء مرة ويتبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية. وخص تعالى بين الأيدي بالذكر لأنه موضع حاجة الإنسان إلى النور.
واختلف الناس في قوله: {وبأيمانهم} فقال بعض المتأولين المعنى: وعن أيمانهم، فكأنه خص ذكر جهة اليمين تشريفاً، وناب ذلك مناب أن يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال آخرون منهم، المعنى: {وبأيمانهم} كتبهم بالرحمة. وقال جمهور المفسرين، المعنى: يسعى نورهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور. {وبأيمانهم} أصله، والشيء الذي هو متقد فيه. فضمن هذا القول أنهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين لها أكرم، ألا ترى أن فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنما كانت بنور لا يحملانه. هذا في الدنيا فكيف في الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم} أي لهم ذلك في الوقت الذي {ترى} فيه بالعين، وأشار إلى أن المحبوب من المال لا يخرج عنه ولا سيما مع الإقتار إلا من وقر الدين في قلبه بتعبيره بالوصف فقال: {المؤمنين والمؤمنات} أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة {يسعى} شعاراً لهم وأمارة على سعادتهم {نورهم} الذي يوجب إبصارهم لجميع ما ينفعهم فيأخذوه وما يضرهم فيتركوه...
{جنات} أي كائنة لكم تتصرفون فيها أعظم تصرف... {تجري} وأفهم القرب بإثبات الجارّ فقال: {من تحتها الأنهار} ولما كان ذلك لا يتم مع خوف الانقطاع قال: {خالدين فيها} خلوداً لا آخر له لأن الله أورثكم ذلك ما لا يورث عنكم كما كان حكام الدنيا لأن الجنة لا موت فيها...
{ذلك} أي هذا الأمر العظيم جداً {هو} أي وحده {الفوز العظيم} أي الذي ملأ بعظمته جميع الجهات من ذواتكم وأبدانكم ونفوسكم وأرواحكم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يوم ترى المؤمنين} منصوباً بفعل محذوف تقديره: اذكُر تنويهاً بما يحصل في ذلك اليوم من ثواب للمؤمنين والمؤمنات ومن حرمان للمنافقين والمنافقات، ولذلك كرر {يوم} ليَختصَّ كل فريق بذكر ما هو من شؤونه في ذلك اليوم...
ووجه عطف {المؤمنات} على {المؤمنين} هنا، وفي نظائره من القرآن المدني التنبيه على أن حظوظ النساء في هذا الدين مساوية حظوظ الرجال إلا فيما خُصصن به من أحكام قليلة لها أدلتها الخاصة وذلك لإِبطال ما عند اليهود من وضع النساء في حالة ملعونات ومحرومات من معظم الطاعات... يسعى نورهم حين يسعون، فحذف ذلك لأن النور إنما يسعى إذا سعى صاحبه وإلا لا نفصل عنه وتركه. وإضافة (نور) إلى ضميرهم وجعلُ مكانه من بين أيديهم وبأيمانهم يبين أنه نور لذواتهم أكرموا به.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التعبير ب «يسعى» من مادّة (سعى) بمعنى الحركة السريعة دليل على أنّ المؤمنين أنفسهم يسيرون بسرعة في طريق المحشر باتّجاه الجنّة حيث مركز السعادة السرمدية، ذلك لأنّ الحركة السريعة لنورهم ليست منفصلة عن حركتهم السريعة.