اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (12)

قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين } .

فيه أوجه : {[55280]}

أحدها : أنه معمول للاستقرار العامل في «له أجر » أي : استقر له أجر في ذلك اليوم .

الثاني : أنه مضمر ، أي : اذكر ، فيكون مفعولاً به .

الثالث : أنهم يُؤجَرُون «يوم ترى » فهو ظرف على أصله .

الرابع : أن العامل فيه «يسعى » أي : يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله .

الخامس : أن العامل فيه «فيُضَاعفه » . قالهما أبو البقاء .

قوله : «يَسْعَى » حال ؛ لأن الرُّؤية بصرية ، وهذا إذا لم تجعله عاملاً في «يوم » ، و«بين أيديهم » ظرف للسعي ، ويجوز أن يكون حالاً من «نورهم » .

قوله : «وبأيمانهم » ، أي : وفي جهة أيمانهم .

وهذه قراءة العامة{[55281]} ، أعني بفتح الهمزة جمع يمين .

وقيل : الباء بمعنى «عن » أي : عن جميع جهاتهم ، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات .

وقرأ{[55282]} أبو حيوة وسهل بن شعيب : بكسرها .

وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله ، والباء سببية ، أي : يسعى كائناً وثابتاً بسبب أيمانهم .

وقال أبو البقاء{[55283]} : تقديره : وبأيمانهم استحقُّوه ، أو بأيمانهم يقال لهم : بُشْرَاكُم .

فصل في المراد بهذا اليوم

المراد من هذا يوم المُحاسبة .

واختلفوا في هذا النور .

فقال الحسن : هو الضياء الذي يمرون فيه{[55284]} «بين أيديهم » أي : قدَّامهم .

«وبأيمانهم » ، قال الفرَّاء : «الباء » بمعنى «في » أي : في أيمانهم ، أو بمعنى : «عن أيمانهم » .

وقال الضحاك : النور هُداهم ، وبأيمانهم كتبهم ، واختاره الطبري{[55285]} .

أي : يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم ، وفي أيمانهم كتب أعمالهم ، ف «الباء » على هذا بمعنى «في » ، ويجوز على هذا أن يوقف على «بين أيديهم » ولا يوقف إذا كانت بمعنى «عن » .

وعلى قراءة سهل بن شعيب وأبي حيوة : «وبإيمانهم » بكسر الألف ، أراد الإيمان الذي هو ضد الكُفر ، وعطف ما ليس بظرف على الظَّرف لأن معنى الظرف الحال ، وهو متعلق بمحذوف .

والمعنى : يسعى كائناً بين أيديهم ، وكائناً بأيمانهم .

وقيل : أراد بالنور : القرآن .

وعن ابن مسعود : «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنَّخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نوراً من نوره على إبهام رجله ، فيطفأ مرة ويوقد أخرى »{[55286]} .

قال الحسن : ليَسْتَضيئُوا به على الصِّراط{[55287]} .

وقال مقاتل : ليكون لهم دليلاً إلى الجنَّة{[55288]} .

قوله : { بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ } .

«بُشْرَاكم » مبتدأ ، و«اليوم » ظرف ، و«جنَّات » خبره على حذف مضاف أي : دخول جنَّات وهذه الجملة في محل نصب بقول مُقدَّر ، وهو العامل في الظرف ، يقال لهم : بُشراكم اليوم دخول جنَّات{[55289]} .

قال القرطبي{[55290]} : «ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف ؛ لأن البُشْرَى حدث ، والجنة عين ، فلا تكون هي هي » .

وقال مكي{[55291]} : وأجاز الفراء نصب «جنَّات » على الحال ، ويكون «اليوم » خبر «بشراكم » قال : «وكون » جنَّات «حالاً لا معنى له ؛ إذ ليس فيها معنى فعل ، وأجاز أن يكون «بُشْرَاكم » في موضع نصب على «يبشرونهم بالبُشْرَى » ، وينصب «جنات » بالبشرى وكله بعيد ، لأنه يفصل بين الصلة والموصول باليوم » . انتهى .

وعجيب من الفرَّاء كيف يصدر عنه ما لا يتعقّل ، ولا يجوز صناعة ، كيف تكون جنات حالاً ، وماذا صاحب الحال{[55292]} ؟ .

وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الدخول المحذوف ، التقدير : بشراكم اليوم دخول الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار مقدرين الخلود فيها .

قال القرطبي{[55293]} : «ولا تكون الحال من «بشراكم » لأن فيه فصلاً بين الصلة والموصول ، ويجوز أن تكون مما دلّ عليه البشرى كأنه قال : يبشرون خالدين فيها ، ويجوز أن يكون الظَّرف الذي هو «اليوم » خبراً عن «بشراكم » ، و«جنات » بدلاً من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم ، و«خالدين » حال حسب ما تقدم » .

فصل في العامل في قوله : «خالدين »

قال شهاب الدِّين{[55294]} : «خالدين » نصب على الحال ، والعامل فيها المضاف محذوف ، إذ التقدير : بُشْرَاكم دخولكم جنات خالدين فيها ، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب ، [ وأضيف المصدر لمفعوله ، فصار دخول جنات ]{[55295]} ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف فيه مقامه في الإعراب ، ولا يجوز أن يكون «بشراكم » هو العامل فيها ؛ لأنه مصدر ، وقد أخبر عنه قبل ذكر متعلقاته ، فيلزم الفصل بأجنبي ، وظاهر كلام مكي أنه عامل في الحال ، فإنه قال : «خالدين » نصب على الحال من الكاف والميم ، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها فيلزم أن يكون «بشراكم » هو العامل ، وفيه ما تقدم من الفصل بين المصدر ومعموله .

فصل في كون الفاسق مؤمناً أم لا

قال ابن الخطيب : تقدم في الكلام البشارة عند قوله : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ } [ البقرة : 25 ] . وهذه الآية تدل على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة ؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص{[55296]} .

قال الكعبي : هذه الآية تدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن ؛ لأنه لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة ، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنَّة ؛ [ ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن ]{[55297]} .

أجاب ابن الخطيب{[55298]} : [ بأنا نقطع بأن الفاسق من أهل الجنة ]{[55299]} ، لأنه إما أن يدخل النار ، أو أنه ممن دخلها ، لكنه سيخرج منها ، وسيدخل الجنة ، ويبقى فيها أبد الآباد ، فإذن يقطع بأنه من أهل الجنة ، فسقط الاستدلال .

قوله : «ذلك الفوز » هذه الإشارة عائدة إلى جميع ما تقدم من النور والبشرى بالجنَّات المخلدة .


[55280]:ينظر: الدر المصون 6/275.
[55281]:ينظر: الدر المصون 6/275.
[55282]:ينظر: المحرر الوجيز 5/261، والبحر المحيط 8/200، والدر المصون 6/275.
[55283]:ينظر: الإملاء 2/1207، 1208.
[55284]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/158).
[55285]:ينظر: جامع البيان 11/676.
[55286]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/676) والحاكم (2/478) عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط البخاري. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/250) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[55287]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/250) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.
[55288]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/158) عن مقاتل.
[55289]:ينظر: الدر المصون 6/275.
[55290]:الجامع لأحكام القرآن 17/158.
[55291]:ينظر: المشكل 2/717، والدر المصون 6/275.
[55292]:الدر المصون 6/275.
[55293]:الجامع لأحكام القرآن 17/158.
[55294]:الدر المصون 6/275.
[55295]:سقط من ب.
[55296]:ينظر: التفسير الكبير 29/195.
[55297]:سقط من أ.
[55298]:التفسير الكبير 29/195.
[55299]:سقط من أ.