قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم } ، أي : كما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلاف قومه ، كذلك نريه { ملكوت السموات والأرض } ، والملكوت : الملك ، زيدت فيه التاء للمبالغة ، كالجبروت والرحموت ، والرهبوت ، قال ابن عباس : يعني خلق السموات والأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني آيات السموات والأرض ، وذلك أنه أقيم على صخرة ، وكشف له عن ملكوت السموات والأرض حتى العرش ، وأسفل الأرضين ، ونظر إلى مكانه في الجنة ، فذلك قوله تعالى : { وآتيناه أجره في الدنيا } يعني : أريناه مكانه في الجنة . وروي عن سلمان رضي الله عنه ، ورفعه بعضهم عن علي رضي الله عنه : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة ، فدعا عليه فهلك ، ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ، ثم أبصر آخر فأراد أن يدعوا عليه فقال له الرب عز وجل : ( يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة ، فلا تدعون على عبادي ، فإنما أنا من عبدي على ثلاث خصال : إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه ، وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني ، وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه ، وإن شئت عاقبته . ) وفي رواية : ( وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه ) . وقال قتادة : ملكوت السموات : الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وملكوت الأرض : الجبال ، والشجر ، والبحار .
قوله تعالى : { وليكون من الموقنين } ، عطف على المعنى ، ومعناه : نريه ملكوت السموات والأرض ، ليستدل به ، وليكون من الموقنين .
وكذلك استحق إبراهيم - عليه السلام - بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون ، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود :
( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ، وليكون من الموقنين ) . .
بمثل هذه الفطرة السليمة ، وهذه البصيرة المفتوحة ؛ وعلى هذا النحو من الخلوص للحق ، ومن إنكار الباطل في قوة . . نري إبراهيم حقيقة هذا الملك . . ملك السماوات والأرض . . ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون ، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود ، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب . لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة ، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق . .
وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق . . وعي لا يطمسه الركام . وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله . وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون . . وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه . .
وكذلك سار إبراهيم - عليه السلام - وفي هذا الطريق وجد الله . . وجده في إدراكه ووعيه ، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره . . ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير .
فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة . . إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة ! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي ! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع ؛ والذي لا يكل الله - سبحانه - جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها ، فيبينه لهم في رسالات الرسل ، ويجعل الرسالة - لا الفطرة ولا العقل البشري - هي حجته عليهم ، وهي مناط الحساب والجزاء ، عدلا منه ورحمة ، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما . .
فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو إبراهيم ! خليل الرحمن وأبو المسلمين . .
وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : تبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله ، عَزَّ وجل ، في ملكه وخلقه ، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كقوله{[10911]} { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ يونس : 101 ] ، وقال { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ الأعراف : 185 ] ، وقال { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ سبأ : 9 ] .
فأما ما حكاه ابن جرير وغيره ، عن مجاهد ، وعَطاء ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّي ، وغيرهم قالوا - واللفظ لمجاهد - : فرجت له السموات ، فنظر إلى ما فيهن ، حتى انتهى بصره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع ، فنظر إلى ما فيهن - وزاد غيره - : فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي فيدعوا عليهم ، فقال الله له : إني أرحم بعبادي منك ، لعلهم أن يتوبوا وَيُرَاجِعُوا . وقد روى ابن مَرْدُوَيه في ذلك حديثين مرفوعين ، عن معاذ ، وعلي [ بن أبي طالب ]{[10912]} {[10913]} ولكن لا يصح إسنادهما ، والله أعلم . وروى ابن أبي حاتم من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } فإنه تعالى جلا لَهُ الأمر ؛ سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا . فرده [ الله ]{[10914]} - كما كان قبل ذلك - فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره ، حتى رأى ذلك عيانا ، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه ، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة ، كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن معاذ بن جبل [ رضي الله عنه ]{[10915]} في حديث المنام : " أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا أدري يا رب ، فوضع كفه{[10916]} بين كتفي ، حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت . . . " وذكر الحديث{[10917]}
وقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } قيل : " الواو " زائدة ، تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين ، كقوله : { [ وَكَذَلِكَ ]{[10918]} نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 55 ] .
{ وكذلك نري إبراهيم } ومثل هذا التبصير نبصره ، وهو حكاية حال ماضية . وقرئ : " ترى " بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية . { ملكوت السماوات والأرض } ربوبيتها وملكها . وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة . { وليكون من الموقنين } أي ليستدل وليكون ، أو وفعلنا ذلك ليكون .