الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ} (75)

قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ } : في هذه الكاف ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنها للتشبيه ، وهي في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، فقَدَّره الزمخشري : " ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرِّفُ إبراهيم ونبصره ملكوت " وقدَّره المهدوي : " وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم " . قال الشيخ : " وهذا بعيد من دلالة اللفظ " قلت : إنما كان بعيداً لأن المحذوف من غير الملفوظ به ولو قدَّره بقوله : " وكما أَرَيْناك يا محمد الهداية " لكان قريباً لدلالة اللفظ والمعنى معاً عليه . وقدَّره أبو البقاء بوجهين ، أحدهما : قال " هو نصب على إضمار أريناه ، تقديرُه : وكما رأى أباه وقومه في ضلال مبينٍ أريناه ذلك ، أي : ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه . والثاني قال : " ويجوز أن يكون منصوباً ب " نُري " التي بعده على أنه صفةٌ لمصدرٍ محذوف تقديره : نريه ملكوت السماوات والأرض رؤية كرؤية ضلال أبيه " انتهى . قلت : فقوله " على إضمار أريناه " لا حاجةَ إليه البتة ولأنَّه يقتضي عدمَ ارتباط قوله " نُري إبراهيم ملكوت " بما قبله .

الثاني : أنها للتعليل بمعنى اللام أي : ولذلك الإِنكارِ الصادرِ منه عليهم ، والدعاءِ إلى الله في زمن كان يُدْعَى فيه غير الله آلهة نريه ملكوت . الثالث : أن الكاف في محل رفع على خبر ابتداء مضمر أي : والأمر كذلك أي : ما رآه من ضلالتهم ، نقل الوجهين الأخيرين أبو البقاء وغيره .

" ونُري " هذا مضارعٌ ، والمراد به حكاية حال ماضية ، ونري يحتمل أن تكون المتعدِّية لاثنين ، لأنها في الأصل بَصَريَّة ، فأكسَبَتْها همزةُ النقل معفولاً ثانياً ، وجعلها ابن عطية منقولة مِنْ رأى بمعنى عرف ، وكذلك الزمخشري فإنه قال فيما قدَّمت/ حكايته عنه " ومثل ذلك التعريف نعرِّف " . قال الشيخ بعد حكايته كلام ابن عطية : " ويَحْتاج كونُ " رأى " بمعنى عرف ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عن العرب ، والذي نقل النحويون أن " رأى " إذا كانت بصَرية تعدَّتْ لمفعول ، وإذا كانت بمعنى " علم " الناصبة لمفعولين تَعَدَّتْ إلى مفعولين " قلت : العجبُ كيف خَصَّ بالاعتراضِ ابنَ عطية دون أبي القاسم . وهذه الجملةُ المشتملةُ على التشبيه أو التعليل معترضة بين قوله " وإذ قال إبراهيم " مُنْكِراً على أبيه وقومه عبادة الأصنام وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله تعالى ، ويجوز أن لا تكون معترضة إن قلنا إنَّ قولَه " فلمَّا " عطف على ما قبله وسيأتي .

والمَلَكوت مصدر على فَعَلوت بمعنى الملك ، وبُني على هذه الزنة ، والزيادة للمبالغة وقد تقدَّم ذلك عند ذكر الطاغوت . والجمهور على مَلَكوت بفتح اللام ، وقرأ أبو السَّمَّال بسكونها وهي لغةٌ .

والجمهور أيضاً على " مَلَكوت " بتاء مثناة ، وعكرمة قرأها مثلَّثة وقال : " أصلها ملكوثا باليونانية أو بالنبطيَّة " وعن النخعي هي ملكوثا بالعبرانية ، قلت : وعلى هذا قراءة الجمهور يحتمل أن تكون من هذا ، وإنما عُرِّبَتِ الكلمة فتلاعبوا بها ، وهذا كما قالوا في اليهود : إنهم سُمُّوا بذلك لأجل يهوذا بن يعقوب بذال معجمة ، ولكن لمَّا عَرَّبَتْه العرب أتوا بالدال المهملة ، إلا أنَّ الأحسنَ أن يكون مشتقاً من المِلْك ، لأنَّ هذه الزِّنَةَ وَرَدَت في المصادر كالرَغَبوت والرهبوت والجبروت والطاغوت . وهل يختصُّ ذلك بمِلْك الله تعالى أم يُقال له ولغيره ؟ فقال الراغب : " والملكوت مختص بملك الله تعالى ، وهذا الذي ينبغي " . وقال الشيخ : " ومن كلامهم : له ملكوت اليمن وملكوت العراق " فعلى هذا لا يختصُّ " .

والجمهور أيضاً على " نُرِي " بنون العظمة ، وقرئ : " تُري " بتاء من فوق ، " إبراهيم " نصباً ، " ملكوت " رفعاً أي : نريه دلائل الربوبية فأسند الفعلَ إلى المَلَكوت مُؤَولاً بمؤنث فلذلك أَنَّث فعله .

قوله : " وليكونَ " فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أن الواو زائدة أي : نُريه ليكون من الموقنين بالله ، فاللامُ متعلقةٌ بالفعل قبلها ، إلا أن زيادةَ الواو ضعيفةٌ ، ولم يَقُلْ بها إلا الأخفش وفرقةٌ تبعته . الثاني : أنها علةٌ لمحذوف أي : وليكون أَرَيْناه ذلك . الثالث : أنها عطف على علة محذوفة اي : ليَسْتَدِلَّ وليكون أو ليقيم الحجة على قومه .

والصنم لغةً : كل جثة صُوِّرَتْ من نحاس أو فضة وعُبِدَتْ متقرَّباً بها إلى الله . وقيل : ما اتخذ من صُفْرٍ ورِمْثٍ وحَجَر ونحوها فصنمٌ ، وما اتخذ من خشب فوثن ، وقيل : بل هما بمعنى واحد . وقيل : الصنم معرَّب من شَمَن . والصنم أيضاً العبد الغويُّ ، وهو أيضاً خُبْثُ الرائحة . ويقال : صَنَمَ أي : صَوَّر ويُضْرَبُ به المثل في الحسن قال :

ما دميةٌ من مرمرٍ صُوِّرَتْ * أو ظَبْيَةٌ في خَمَرٍ عاطفُ * أحسنَ منها يومَ قالَتْ لنا * والدمعُ من مُقْلتها واكفُ * لأنتَ أَحْلَى من لذيذ الكرى * ومن أمانٍ ناله خائفُ