محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ} (75)

/ [ 75 ] { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ( 75 ) }

{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } أي : نطلعه على حقائقهما ، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل ، من حيث إنهما بما فيهما ، مربوبان ومملوكان ، له تعالى . و ( الملكوت ) مصدر على زنة المبالغة ، كالرهبوت والجبروت ، ومعناه : الملك العظيم ، والسلطان القاهر . وقيل : ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما . وقد أسلفنا الكلام في ( وكذلك ) قريبا عند قوله تعالى : { وكذلك فتنا }{[3522]} وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده ، والكاف مقحمة ، والتقدير : تلك الإراءة والتبصير البديع ، نريه ونبصره . فجدد به عهدا .

{ وليكون من الموقنين } عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها ، إشعارا بأن لتلك الإراءة فوائد جمة من جملتها ما ذكر .

قال المهايمي في الآية : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } ليعلم أن شيئا من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية . { وليكون من الموقنين } بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة . وقيل : { وليكون } علة لمقدر هو عبارة عن المذكور . أي : وليكون من الموقنين بالتوحيد . فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض .

لطائف

الأولى- قال الرازي : وههنا دقيقة عقلية ، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غيرنقطع ولا زائل البتة ، والأرواح البشرية ، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب ، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى . فإذا كان الأمر كذلك ، فبقدر ما يزول ذلك الحجاب ، يحصل هذا التجلي . فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { أتتخذ أصناما آلهة ) إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى ، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى ، فلما زال ذلك الحجاب ، لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام . فقوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات } معناه : وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى ، فكان قوله : { وكذلك } منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية .

الثانية- قال الرازي : اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل . ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا ، لأن علمه غير مسبوق بالشبهة ، وغير مستفاد من الفكر والتأمل . واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به ، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت ، صارت سببا لحصول اليقين . وذلك لوجوه :

الأول- أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة ، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم .

الثاني- أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة . فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد ، جار مجرى تكرار الدرس الواحد . فكما أن كثرة التكرار يفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب ، فكذا ههنا .

الثالث- أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا ، فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول ، امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب ، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة ، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى ، فيصير الإشراق واللمعان أتم . وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر / نورها في أول الأمر ، وهو الصبح . فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح . ثم ، كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس ، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام ، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر ، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى . إلا أن الفرق بين شمس العلم ، وشمس العالم ، أن شمس العالم الجسماني لها في الاتقاء والتصاعد حد معين ، لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود . وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد ، فلا نهاية لتصاعدها ، ولا غاية لازديادها . فقوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات . وقوله : { وليكون من الموقنين } إشارة إلى درجات أنوار التجلي ، وشروق شمس المعرفة والتوحيد . انتهى .

الثالثة- ذكر تعالى الإراءة في هذه الآية مجملة ، ثم فصلها بقوله : [ 76 ] { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ( 76 ) } .


[3522]:- [6/ الأنعام/ 53] ونصها: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53)}.