الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ} (75)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وكذلك}: هكذا، {نري إبراهيم ملكوت}: خلق {السماوات والأرض}، وما بينهما من الآيات، {وليكون} إبراهيم {من الموقنين} بالرب أنه واحد لا شريك له.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وكَذَلِكَ": وكما أريناه البصيرة في دينه والحقّ في خلاف ما كانوا عليه من الضلال، نريه "ملكوت السموات والأرض"، يعني: ملكه، وزيدت فيه التاء كما زيدت في «الجبروت» من الجبر، وكما قيل: رهبوت خير من رحموت، بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعا: له ملكوت اليمن والعراق، بمعنى: له ملك ذلك.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلق السموات والأرض. وقال آخرون: معنى الملكوت: الملك بنحو التأويل الذي أوّلناه وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السموات والأرض.

وقال آخرون: بل معنى ذلك ما أخبر تعالى أنه أراه من النجوم والقمر والشمس. وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عنى الله تعالى بقوله: "وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ "أنه أراه ملك السموات والأرض، وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابّ وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما، وجلّى له بواطن الأمور وظواهرها لما ذكرنا قبل من معنى الملكوت في كلام العرب فيما مضى قبل.

وأما قوله: "وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ" فإنه يعني: أنه أراه ملكوت السموات والأرض ليكون ممن يتوحد بتوحيد الله، ويعلم حقية ما هداه له وبصره إياه من معرفة وحدانيته وما عليه قومه من الضلالة من عبادتهم واتخاذهم آلهة دون الله تعالى.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وليكون من الموقنين} الإيقان بالشيء هو العلم بالشيء حقيقة بعد الاستدلال والنظر فيه والتدبر. ولذلك لا يوصف الله باليقين، ولا يجوز لله أن يقال: موقن لما ذكرنا: هو العلم الذي يعقب الاستدلال وذلك منهي عنه.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الموقنين لوحدانية الله تعالى وقدرته. والثاني: من الموقنين نبوته وصحة رسالته.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

...والإشارة هنا بذلك هي إلى تلك الهداية، أي وكما هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر أريناه ملكوت. و {نُري} لفظها الاستقبال ومعناها المضي.

وحكى المهدوي: أن المعنى وكما هديناك يا محمد فكذلك نري إبراهيم. وهذا بعيد إذ اللفظ لا يعطيه، و {نُرِي} هنا متعدية إلى مفعولين لا غير فهي إما من رؤية البصر وإما من أرى التي هي بمعنى عرف...

...

وقيل: هي رؤية بصر في ظاهر الملكوت وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب ما لم يقع لأحد من أهل زمنه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره، ففي هذا تخصيص ما على جهة التقييد بأهل زمنه، وقيل هي رؤية قلب رأى بها ملكوت السماوات والأرض بفكرته ونظره، وذلك ولا بد متركب على ما تقدم من رؤيته ببصره وإدراكه في الجملة بحواسه.

وهذان القولان الأخيران يناسبان الآية، لأن الغاية التي نصبت له إنما هي أن يؤمن ويكون من جملة موقنين كثرة، والإشارة لا محالة إلى من قبله من الأنبياء والمؤمنينن وبعده، واليقين يقع له ولغيره وبالرؤية في ظاهر الملكوت والاستدلال به على الصانع والخالق لا إله إلا هو..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين}.

فيه مسائل:

المسألة الأولى: «الكاف» في كذلك للتشبيه، وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه عليه السلام استقبح عبادة الأصنام، وهو قوله: {إني أراك وقومك في ضلال مبين} والمعنى: ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض. وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة، والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى، فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم عليه السلام: {أتتخذ أصناما آلهة} إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى، لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام، فقوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات} معناه: وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله: {وكذلك} منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان، فكان الأولى أن يقال: وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله {وكذلك نرى}.

قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن يكون تقدير الآية، وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي. والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصبا للدين الحق. فكأنه قيل: وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين، فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه.

الوجه الثاني في الجواب: وهو أعلى وأشرف مما تقدم، وهو أنا نقول: إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت، بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته. ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات، إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية. وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال: سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول: سمعت إمام الحرمين يقول: معلومات الله تعالى غير متناهية، ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضا غير متناهية، وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضا، وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك؛ فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى، فثبت أن دلالة ملك الله تعالى، وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال، فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل، فلهذا السبب والله أعلم لم يقل، وكذلك أريناه ملكوت السماوات والأرض، بل قال: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم.

المسألة الثالثة: {الملكوت} هو الملك، و«التاء» للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة.

واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين: الأول: أن الله أراه الملكوت بالعين، قالوا إن الله تعالى شق له السماوات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني، وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني، ورأى ما في السماوات من العجائب والبدائع، ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع.

والقول الثاني: أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل، لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر. واحتج القائلون بهذا القول بوجوه:

الحجة الأولى: أن ملكوت السماوات عبارة عن ملك السماء، والملك عبارة عن القدرة، وقدرة الله لا ترى، وإنما تعرف بالعقل، وهذا كلام قاطع، إلا أن يقال المراد بملكوت السماوات والأرض نفس السماوات والأرض، إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة.

والحجة الثانية: أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله: {وكذلك نري إبراهيم} ثم فسرها بعد ذلك بقوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا} فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال.

والحجة الثالثة: أنه تعالى قال في آخر الآية: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة، وإنما كانت الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن. فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم.

والحجة الرابعة: أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلها قادرا على كل الممكنات. ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم. ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب. وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم.

والحجة الخامسة: أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} فكذلك قال في حق هذه الأمة: {سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم} فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك.

الحجة السادسة: أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} فحكم على السماوات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس. وذلك الدليل لو لم يكن عاما في كل السماوات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ، فثبت أن ذلك الدليل كان عاما فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت. فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين.

الحجة السابعة: أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك وقوله تعالى: {وليكون من الموقنين} كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين. فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل، وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال.

الحجة الثامنة: أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع. وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال على الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة ألبتة. ثم إنها غير شاغلة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال. ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفا واحدا فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروما عن إدراك الحرف الأول، أو عن إبصاره. فثبت أن رؤية الأشياء الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة. وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى. ألا ترى أنه تعالى مدح محمدا عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال: {ما زاغ البصر وما طغى} فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل، لا بحسب البصر الظاهر.

فإن قيل: فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها.

قلنا: جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام. ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: (اللهم أرنا الأشياء كما هي) فزال هذا الإشكال. والله أعلم.

المسألة الرابعة: اختلفوا في «الواو» في قوله: {وليكون من الموقنين} وذكروا فيه وجوها: الأول: الواو زائدة والتقدير: نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين. الثاني: أن يكون هذا كلاما مستأنفا لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السماوات والأرض. الثالث: أن الإراءة قد تحصل وتصير سببا لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى: {ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى} وقد تصير سببا لمزيد الهداية واليقين. فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم.

المسألة الخامسة: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سببا لحصول اليقين وذلك لوجوه: الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم. الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد، فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا. الثالث: أن القلب عند الاستدلال كان مظلما جدا فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب، فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة، فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى، فيصير الإشراق واللمعان أتم. وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح. فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح، ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس، فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام، فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى. إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله: {وليكون من الموقنين} إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} أي وكما أرينا إبراهيم الحق في أمر أبيه وقومه وهو أنهم كانوا على ضلال بين في عبادتهم للأصنام كنا نريه المرة بعد المرة ملكوت السماوات والأرض، على هذه الطريقة التي يعرف بها الحق، فهي رؤية بصرية، تتبعها رؤية البصيرة العقلية، وإنما قال نريه دون أريناه لاستحضار صورة الحال الماضية التي كانت تتجدد وتتكرر بتجدد رؤية آيه تعالى في ذلك الملكوت العظيم كما يعلم من التعليل الآتي، والتفصيل المترتب على هذا الإجمال في الآيات. والملكوت المملكة أو الملك العظيم والعز والسلطان، وإطلاق الصوفية إياه على عالم الغيب اصطلاح قال في اللسان: وملك الله تعالى وملكوته سلطانه وعظمته، ولفلان ملكوت العراق أي عزه وسلطانه وملكه. عن اللحياني. والملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة وتقال للملكوت ملكوة (كترقوة) اه وقال الراغب والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملك أدخلت فيه التاء نحو رحموت ورهبوت اه وصرح بعضهم بأن هذه التاء للمبالغة على قاعدة زيادة المبنى لزيادة المعنى، فالملكوت الملك العظيم والرحموت الرحمة الواسعة والرهبوت الرهبة الشديدة.

وروي عن عكرمة أن كلمة ملكوت نبطية وأصلها بلسانهم ملكوتا. وفي كتب اللغة أن النبط والأنباط جيل من الناس يسكنون البطائح وغيرها من سواد العراق، فهم بقايا إبراهيم في وطنه الأصلي إذا كانت سلسلة نسبهم محفوظة، ويقول المؤرخون إنهم من بقايا العمالقة وإنهم هاجروا من العراق بعد سقوط دولة الحمورابيين وتفرقوا في جزيرة العرب ثم أنشئوا دولة الشمال منها. وقد روي عن علي وابن عباس (رض) أن كلا منهما قال: إننا نبط من كوثى. وكوثى بلد إبراهيم صلى الله على وآله وسلم كما يحفظ عن العرب، ومراد الحبرين أن بني هاشم من ذرية إبراهيم وأن النبط من قومه، وفيه إنكار احتقارهم لنسبهم أو ضعف لغتهم، وقيل إن مرادهما به التواضع وذم التفاخر بالأنساب. وروي عن ابن عباس أن المراد بملكوت السماوات والأرض خلقهما أي كقوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء} [الأعراف: 185] وعن مجاهد أنه آياتهما، وعنهما وعن قتادة أنه الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والبحار، وعن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أراه ما وراء مسارح الأبصار من السماوات والأرض حتى انتهى بصره إلى العرش، وزاد بعضهم أنه أراه خفايا أعمال العباد ومعاصيهم.

وليس لهذه الأقوال الأخيرة حجة من الحديث المرفوع وإنما استنبطوها فيما يظهر من إسناد الإراءة إلى الله عز وجل، فإنه يدل على عناية خاصة، واختار ابن جرير مما رواه من تلك الأقوال أنه تعالى أراه من ملكوت السماوات والأرض ما فيهما من الشمس والقمر والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما وجلى له بواطن الأمور وظواهرها، ويتحقق ذلك بهدايته إياه إلى وجوه الحجة فيها على وحدانيته تعالى وقدرته، وعلمه وحكمته، وفضله ورحمته، ويدل على ذلك تعليل الإراءة، وما يترتب عليها من إقامة الحجة.

أما التعليل فقوله تعالى: {وليكون من الموقنين (75)} قيل إن المعنى ولأجل أن يكون من أهل اليقين الراسخين فيه أريناه ما أرينا، وبصرناه من أسرار الملكوت ما بصرنا، وقيل إن هذا عطف على تعليل حذف لتغوص الأذهان على استخراجه من قرائن الحال، وأسلوب المقال، أي نريه ذلك ليعرف سنننا في خلقنا، وحكمنا في تدبير ملكنا، وآياتنا الدالة على ربوبيتنا وألوهيتنا، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الواقفين على عين اليقين، وهو من الإيجاز البديع. واليقين في اللغة الاعتقاد الجازم المبني على الإمارات والدلائل والاستنباط دون الحس والضرورة وقال الراغب هو سكون الفهم مع ثبات الحكم وإنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية. وبذلك جمع إبراهيم بين العلم النظري والعلم اللدني.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وكذلك استحق إبراهيم -عليه السلام- بصفاء فطرته وخلوصها للحق أن يكشف الله لبصيرته عن الأسرار الكامنة في الكون، والدلائل الموحية بالهدى في الوجود:

(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض، وليكون من الموقنين)..

بمثل هذه الفطرة السليمة، وهذه البصيرة المفتوحة؛ وعلى هذا النحو من الخلوص للحق، ومن إنكار الباطل في قوة.. نري إبراهيم حقيقة هذا الملك.. ملك السماوات والأرض.. ونطلعه على الأسرار المكنونة في صميم الكون، ونكشف له عن الآيات المبثوثة في صحائف الوجود، ونصل بين قلبه وفطرته وموحيات الإيمان ودلائل الهدى في هذا الكون العجيب. لينتقل من درجة الإنكار على عبادة الآلهة الزائفة، إلى درجة اليقين الواعي بالإله الحق..

وهذا هو طريق الفطرة البديهي العميق.. وعي لا يطمسه الركام. وبصر يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله. وتدبر يتبع المشاهد حتى تنطق له بسرها المكنون.. وهداية من الله جزاء على الجهاد فيه..

وكذلك سار إبراهيم -عليه السلام- وفي هذا الطريق وجد الله.. وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده فحسب في فطرته وضميره.. ووجد حقيقة الألوهية في الوعي والإدراك مطابقة لما استكن منها في الفطرة والضمير.

فلنتابع الرحلة الشائقة مع فطرة إبراهيم الصادقة.. إنها رحلة هائلة وإن كانت تبدو هينة ميسرة! رحلة من نقطة الإيمان الفطري إلى نقطة الإيمان الوعي! الإيمان الذي يقوم عليه التكليف بالفرائض والشرائع؛ والذي لا يكل الله -سبحانه- جمهرة الناس فيه إلى عقولهم وحدها، فيبينه لهم في رسالات الرسل، ويجعل الرسالة -لا الفطرة ولا العقل البشري- هي حجته عليهم، وهي مناط الحساب والجزاء، عدلا منه ورحمة، وخبرة بحقيقة الإنسان وعلما..

فأما إبراهيم -عليه السلام- فهو إبراهيم! خليل الرحمن وأبو المسلمين..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وقوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} إشارة إلى حجّة مستنبطة من دلالة أحوال الموجودات على وجود صانعها.

والرؤية هنا مستعملة للانكشاف والمعرفة، فالإراءة بمعنى الكشف والتعريف، فتشمل المبصرات والمعقولات المستدلّ بجميعها على الحق وهي إراءة إلهام وتوفيق، كما في قوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185]، فإبراهيم عليه السلام ابتُدىء في أوّل أمره بالإلهام إلى الحقّ كما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية الصادقة. ويجوز أن يكون المراد بالإراءة العلم بطريق الوحي. وقد حصلت هذه الإراءة في الماضي فحكاها القرآن بصيغة المضارع لاستحضار تلك الإراءة العجيبة كما في قوله تعالى: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} [فاطر: 9].

والملكوت اتَّفق أئمَّة اللغة على أنَّه مصدر كالرَغَبُوت والرّحَمُوت والرّهَبُوت والجَبَرُوت. وقالوا: إنّ الواو والتاء فيه للمبالغة. وظاهره أنّ معناه المِلك بكسر الميم لأنّ مصدر مَلك المِلك بكسر الميم ولمَّا كان فيه زيادة تفيد المبالغة كان معناه المِلك القوي الشديد. ولذلك فسَّره الزمخشري بالربوبية والإلهية. وفي « اللسان»: مُلْك الله وملكوته سلطانُه ولفلان ملكوت العراق، أي سلطانه ومُلكه. وهذا يقتضي أنَّه مرادف للمُلك بضمّ الميم وفي طبعة « اللسان» في بولاق رُقمت على ميم مُلكه ضمّة.

وفي « الإتقان» عن عكرمة وابن عبَّاس: أنّ الملكوت كلمة نَبَطِيَّة. فيظهر أنّ صيغة (فعلوت) في جميع الموارد التي وردت فيها أنَّها من الصيغ الدخيلة في اللغة العربية، وأنَّها في النبطيّة دالَّة على المبالغة، فنقلها العرب إلى لغتهم لِما فيها من خصوصية القوّة. ويستخلص من هذا أنّ الملكوت يطلق مصدراً للمبالغة في المِلك، وأنّ المُلك (بالضمّ) لما كان مِلكاً (بالكسر) عظيماً يطلق عليه أيضاً المَلَكُوت. فأمَّا في هذه الآية فهو مجاز على كلا الإطلاقين لأنَّه من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، وهو المملوك، كالخَلق على المخلوق، إمَّا من المِلك بكسر الميم أو من المُلك بضمِّها.

وإضافة ملكوت السماوات والأرض على معنى (في). والمعنى ما يشمله المُلك أو الملك، والمُراد مُلك الله. والمعنى نكشف لإبراهيم دلائل مخلوقاتنا أو عظمة سلطاننا كشفاً يطلعه على حقائقها ومعرفة أن لا خالق ولا متصرّف فيما كشفنا له سوانا.

وعُطِف قوله: {وليَكون من الموقنين} على قوله: {وكذلك} لأنّ {وكذلك} أفاد كون المشبَّه به تعليماً فائقاً. ففهم منه أنّ المشبَّه به علّة لأمر مهمّ هو من جنس المشبَّه به. فالتقدير: وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض إراء تبصير وفهم ليَعْلم علماً على وفق لذلك التفهيم، وهو العلم الكامل وليكون من الموقنين. وقد تقدّم بيان هذا عند تفسير قوله تعالى: {وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في هذه السورة [56].

والموقن هو العالم علماً لا يقبل الشكّ، وهو الإيقان. والمراد الإيقان في معرفة الله تعالى وصفاته. وقوله: وليكون من الموقنين} أبلغ من أن يقال: وليكون موقناً كما تقدّم عند قوله تعالى: {قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين} في هذه السورة [56].

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وقال تعالى: (وليكون من الموقنين) الواو للعطف على فعل مفهوم من مضمون الكلام السابق، إذ تقدير القول نرى إبراهيم سر الملك السماوات والأرض وما يدل عليه ليعرف الله تعالى وليكون من الموقنين الذين يعرفون الحق، ويجزمون به من دليله ومن المعاينة التي تكشف عما غيب، لتعرف الغيب من مظاهر الحس.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهكذا نجد أن الرؤية التي يتحدث عنها القرآن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَواتِ وَالأرْضِ} هي الرؤية الواعية الفاحصة المدققة التي تثير في النفس المزيد من التأمّل والحوار والاستنتاج، بدليل قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} ما يوحي بأنها الرؤية التي تبعث على القناعة واليقين.