{ وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم } هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه ، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضاراً لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة ، وقيل : إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء . والإشارة إلى مصدر «نري » لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى : { إِنّى أَرَاكَ } [ الأنعام : 74 ] ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة . وجوز كل ، وقيل : يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من حيث إنه مدلول اللفظ ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع ، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول السابق ، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام .
{ مَلَكُوتَ * السموات والارض } أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيراً آخر أدنى منه ، «فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك وغيره من أهل اللغة وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر ، وهو كما قال الراغب مختص به تعالى » خلافاً لبعضهم . وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات ، وقيل : العجائب التي في السموات والأرض فإنه عليه السلام فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأَرَضون السبع فنظر إلى ما فيهن . وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث ، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه ، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح وإما أن أقبضه إلي فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت " وروي نحو موقوفاً ومرفوعاً من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافاً لمن توهمه ، وقيل : ملكوت السموات : الشمس والقمر والنجوم . وملكوت الأرض : الجبال والأشجار والبحار . وهذه الأقوال على ما قيل لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل ، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حساً كما ينبىء عنه التشبيه السابق .
وقرىء «تري » بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية .
{ وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى ، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى ، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر ، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور ، والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته ، وبعضهم لم يلاخظ ذلك فقدر الفعل مقدماً لعدم انحصار العلة فيما ذكر . وقيل : هي متعلقة بالفعل السابق ، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل ( بها ) وليكون ، واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سبباً للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء ، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السموات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية ، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها ، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجهاً كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل .
( ومن باب الإشارة فيها ) :{ وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ * السموات والارض } أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } [ الأنعام : 75 ] أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.