غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ} (75)

74

{ وكذلك } أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله { نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل «أريناه » بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل : كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه ؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه ، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين : معلومات الله غير متناهية ، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضاً غير متناهية . فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى ، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت ! ولهذا قيل : السفر إلى الله تعالى له نهاية ، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية . والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة . قال بعضهم : إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين . قالوا : شق له تحت السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية ، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب . عن ابن عباس أنه قال : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك ، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث : إما أن أجعل منهم ذرية طيبة ، أو يتوبون فأغفر لهم ، أو النار من ورائهم . وقال الأكثرون : إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة ، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعاً . وأيضاً قوله { فلما جن عليه الليل } جارٍ مجرى الشرع والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم . ثم قال بالآخرة { وتلك حجتنا } والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه . وأيضاً الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة . وأيضاً اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك ، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين ، أو ليكون من الموقنين نريه ، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سبباً للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون { ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } [ طه : 56 ] وأيضاً الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء ، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله . أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها ، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله ، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله . وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي ، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه «أرني الأشياء كما هي » ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة ، ويكون جارياً مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نوراً وإشراقاً وانبساطاً إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله .

/خ83