الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلۡمُوقِنِينَ} (75)

قوله تعالى : " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض " أي ملك ، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في الصفة . ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت . وقرأ أبو السمال{[6498]} العدوي " ملكوت " بإسكان اللام . ولا يجوز عند سيبويه حذف الفتحة لخفتها ، ولعلها لغة . و " نري " بمعنى أرينا ، فهو{[6499]} بمعنى المضي . فقيل : أراد به ما في السماوات من عبادة الملائكة والعجائب وما في الأرض من عصيان بني آدم ، فكان يدعو على من يراه يعصي فيهلكه الله ، فأوحى الله إليه يا إبراهيم أمسك عن عبادي ، أما علمت أن من أسمائي الصبور . روى معناه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : كشف الله له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين . وروى ابن جريج عن القاسم عن إبراهيم النخعي قال : فرجت له السماوات السبع فنظر إليهن حتى انتهى إلى العرش ، وفرجت له الأرضون فنظر إليهن ، ورأى مكانه في الجنة ، فذلك قوله : " وآتيناه أجره في الدنيا{[6500]} " [ العنكبوت : 27 ] عن السدي . وقال الضحاك : أراه من ملكوت السماء ما قصه من الكواكب ، ومن ملكوت الأرض البحار والجبال والأشجار ، ونحو ذلك مما استدل به . وقال بنحوه ابن عباس . وقال : جعل حين ولد في سرب{[6501]} وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها ، وكان نمروذ اللعين رأى رؤيا فعبرت له أنه يذهب ملكه على يدي مولود يولد ، فأمر بعزل الرجال عن النساء . وقيل : أمر بقتل كل مولود ذكر . وكان آزر من المقربين عند الملك{[6502]} نمروذ فأرسله يوما في بعض حوائجه فواقع امرأته فحملت بإبراهيم . وقيل : بل واقعها في بيت الأصنام فحملت وخرت الأصنام على وجوهها حينئذ ، فحملها إلى بعض الشعاب حتى ولدت إبراهيم ، وحفر لإبراهيم سربا في الأرض ووضع على بابه صخرة لئلا تفترسه السباع ، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه ، وكانت تجده يمص أصابعه ، من أحدها عسل ومن الآخر ماء ومن الآخر لبن ، وشب فكان على سنة مثل ابن ثلاث سنين . فلما أخرجه من السرب توهمه الناس أنه ولد منذ سنين ، فقال لأمه : من ربي ؟ فقالت أنا . فقال : ومن ربك ؟ قالت أبوك . قال : ومن ربه{[6503]} ؟ قالت نمروذ . قال : ومن ربه ؟ فلطمته ، وعلمت أنه الذي يذهب ملكهم على يديه . والقصص في هذا تام في قصص الأنبياء للكسائي ، وهو كتاب{[6504]} مما يقتدى به . وقال بعضهم : كان مولده بحران ، ولكن أبوه نقله إلى أرض بابل . وقال عامة السلف من أهل العلم : ولد إبراهيم في زمن النمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن كوش بن سام بن نوح . وقد مضى ذكره في " البقرة " {[6505]} . وكان بين الطوفان وبين مولد إبراهيم ألف ومائتا سنة وثلاث وستون سنة ؛ وذلك بعد خلق آدم بثلاث آلاف سنة وثلاثمائة سنة وثلاثين سنة .

قوله تعالى : " وليكون من الموقنين " أي وليكون من الموقنين أريناه ذلك ، أي الملكوت .


[6498]:أبو السمال قعنب بن أبي قعنب العدوي البصري . كذا في طبقات القراء والتاج. له قراءات شاذة عن العامة. وفي الميزان: أبو السماك معتب بن هلال العدوي البصري له حروف شاذة لا يعتمد على نقله ولا يوثق به. وفي ب و ج: ابن السماك.
[6499]:من ك و ج و ع.
[6500]:راجع ج 13 ص 339.
[6501]:السرب (بالتحريك): حفير أو بيت تحت الأرض.
[6502]:من ك.
[6503]:في ك: ومن رب نمروذ.
[6504]:في ج و ز: كتاب حسن نظيف مما يفترى.
[6505]:راجع ج 3 ص 283.