قوله تعالى : { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً } ، الآية . قال أهل التفسير : ولد إبراهيم عليه السلام في زمن نمرود بن كنعان ، وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ، ودعا الناس إلى عبادته ، وكان له كهان ومنجمون ، فقالوا له : إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ، ويقال : إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام ، وقال السدي : رأى نمرود في منامه كأن كوكبا طلع ، فذهب بضوء الشمس والقمر ، حتى لم يبق لهما ضوء ، ففزع من ذلك فزعاً شديداً ، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك ، فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة ، فيكون هلاكك ، وهلاك ملكك ، وأهل بيتك على يديه ، قالوا : فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة ، وأمر بعزل الرجال عن النساء ، وجعل على كل عشرة رجلاً ، فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها ، لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض ، فإذا طهرت حال بينهما ، فرجع آزر ، فوجد امرأته قد طهرت من الحيض ، فواقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام . وقال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرية ، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام ، فإنه لم يعلم بحبلها ، لأنها كانت جارية حديثة السن ، لم يعرف الحبل في بطنها ، وقال السدي : خرج نمرود بالرجال من المعسكر ، ونحاهم عن النساء تخوفاً من ذلك المولود أن يكون ، فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم بدت له حاجة إلى المدينة ، فلم يأتمن عليها أحداً من قومه إلا آزر ، فبعث إليه ، ودعاه ، وقال له : إن لي أريد أن أوصيك بها ، ولا أبعثك إلا لثقتي بك ، فأقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ، فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك ، فأوصاه بحاجته ، فدخل المدينة ، وقضى حاجته ، ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم ، فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى واقعها ، فحملت بإبراهيم عليه السلام . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لما حملت أم إبراهيم قال الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة ، فأمر نمرود بقتل الغلمان ، فلما دنت ولادة أم إبراهيم عليه السلام وأخذها المخاض ، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها ، فيقتل ولدها ، فوضعته في نهر يابس ، ثم لفته في خرقة ، ووضعته في حلفاء ، فرجعت ، فأخبرت زوجها بأنها ولدت ، وأن الولد في موضع كذا وكذا ، فانطلق أبوه ، فأخذه من ذلك المكان ، وحفر له سرباً عند نهر فواراه فيه ، وسد عليه بابه بصخرة ، مخافة السباع ، وكانت أمه تختلف إليه ، فترضعه ، وقال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبة منها ، فولدت فيها إبراهيم عليه السلام ، وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ، ثم سدت عليه المغارة ، ورجعت إلى بيتها ، ثم كانت تطالعه لتنظر ما فعل ، فتجده حياً يمص إبهامه . قال أبو روق : قالت أم إبراهيم ذات يوم : لأنظرن إلى أصابعه ، فوجدته يمص من أصبع ماءً ، ومن أصبع لبناً ، ومن أصبع عسلاً ، ومن أصبع تمراً ، ومن أصبع سمناً . وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت : قد ولدت غلاماً فمات ، فصدقها ، فسكت عنها ، وكان اليوم على إبراهيم في النشوء كالشهر ، والشهر كالسنة ، فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهراً حتى قال لأمه أخرجيني ، فأخرجته عشاءً ، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض ، وقال : إن الذي خلقني ورزقني ، وأطعمني ، وسقاني ، لربي الذي مالي إله غيره ، ثم نظر إلى السماء ، فرأى كوكباً فقال : هذا ربي ، ثم أتبعه بصره ، ينظر إليه حتى غاب ، فلما أفل ، قال : لا أحب الآفلين ، ثم رأى القمر بازغاً قال : هذا ربي ، ثم أتبعه ببصره حتى غاب ، ثم طلعت الشمس هكذا إلى آخره ، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته ، وعرف ربه ، وبرئ من دين قومه ، إلا أنه لم ينادهم بذلك ، فأخبره أنه ابنه ، وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه ، وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه ، فسر آزر بذلك ، وفرح فرحاً شديداً ، وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة ، قالوا : فلما شب إبراهيم عليه السلام ، وهو في السرب قال لأمه : من ربي ؟ قالت : أنا ، قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك ، قال : فمن رب أبي ؟ قالت : نمرود ، قال : فمن ربه ؟ قالت له : اسكت فسكت ، ثم رجعت إلى زوجها فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ، ثم أخبرته بما قال ، فأتاه أبوه آزر ، فقال له إبراهيم عليه السلام : يا أبتاه من ربي ؟ قال : أمك ، قال : فمن رب أمي ؟ قال : أنا . قال : فمن ربك ؟ قال : نمرود . قال : فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال له : اسكت ، فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة ، فأبصر كوكباً ، قال : هذا ربي . ويقال : إنه قال لأبويه أخرجاني ، فأخرجاه من السرب ، وانطلقا به حين غابت الشمس ، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم ، فسأل أباه ما هذه ؟ فقال : إبل ، وخيل ، وغنم ، فقال : ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق ، ثم نظر ، فإذا المشتري قد طلع ، ويقال : الزهرة ، فكان تلك الليلة في آخر الشهر ، فتأخر طلوع القمر فيها ، فرأى الكوكب قبل القمر ، فذلك قوله عز وجل : { فلما جن عليه الليل } أي : دخل الليل ، يقال : جن الليل ، وأجن الليل ، وجنه الليل ، وأجن عليه الليل ، يجن جنوناً وجناناً ، إذا أظلم وغطى كل شيء ، وجنون الليل سواده ، { رأى كوكباً } قرأ أبو عمرو ( رأى ) بفتح الراء ، وكسر الألف ، ويكسرهما ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، فإن اتصل بكاف أو هاء فتحهما ابن عامر ، وإن لقيهما ساكن كسر الراء ، وفتح الهمزة حمزة ، وأبو بكر ، وفتحهما الآخرون .
قوله تعالى : { قال هذا ربي } . واختلفوا في قوله ، ذلك : فأجراه بعضهم على الظاهر ، وقالوا : كان إبراهيم عليه السلام مسترشداً ، طالباً للتوحيد ، حتى وفقه الله تعالى ، وآتاه رشده ، فلم يضره ذلك في حال الاستدلال ، وأيضاً كان ذلك في حال طفولته ، قبل قيام الحجة عليه ، فلم يكن كفراً ، وأنكر الآخرون هذا القول ، وقالوا : لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد ، وبه عارف ، ومن كل معبود سواه بريء ، وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله ، وطهره ، وآتاه رشده . من قبل ، وأخبره عنه ، وقال : { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات :84 ] وقال : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } ، أفتراه أراه الملكوت ليوقن ، فلما أيقن رأى كوكباً قال : هذا ربي معتقدا ؟ فهذا ما لا يكون أبداً . ثم قال : فيه أربعة أوجه من التأويل : أحدها : أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرج القوم بهذا القول ، ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ، ويرون أن الأمور كلها إليها ، فأراهم أنه معظم ما عظموه وملتمس الهدى من حيث ما التمسوه ، فلما أفل أراهم النقص الداخل على النجوم ، ليثبت خطأ ما يدعون ، ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون الصنم ، فأظهر تعظيمه فأكرموه ، حتى صدروا في كثر من الأمور عن رأيه ، إلى أن دهمهم عدو فشاوروه في أمره ، فقال : الرأي أن ندعو هذا الصنم حتى يكشف عنا ما قد أظلنا ، فاجتمعوا حوله يتضرعون ، فلما تبين لهم أنه لا ينفع ولا يدفع دعاهم إلى أن يدعوا الله فدعوه ، فصرف عنهم ما كانوا يحذرون ، فأسلموا . والوجه الثاني من التأويل : أنه قال على وجه الاستفهام تقديره : أهذا ربي ؟ كقوله تعالى : { أفإن مت فهم الخالدون } [ الأنبياء :34 ] أي : أفهم الخالدون ؟ وذكره على وجه التوبيخ ، منكراً لفعلهم ، يعني : أمثل هذا يكون رباً ؟ أي : ليس هذا ربي ؟ والوجه الثالث : أنه ذكره على وجه الاحتجاج عليهم ، يقول : هذا ربي بزعمكم ، فلما غاب قال : لو كان إلهاً لما غاب ، كما قال : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، أي : عند نفسك وبزعمك ، وكما أخبر عن موسى أنه قال : { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه } [ طه :97 ] يريد إلهك بزعمك . والوجه الرابع فيه إضمار ، وتقديره : يقولون هذا ربي ، كقوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا } ، [ البقرة :127 ] أي : يقولان ربنا تقبل منا .
قوله تعالى : { فلما أفل قال لا أحب الآفلين } ، وما لا يدوم .
( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا . قال : هذا ربي ، فلما أفل قال : لا أحب الآفلين ) . .
إنها صورة لنفس إبراهيم ، وقد ساورها الشك - بل الإنكار الجازم - لما يعبد أبوه وقومه من الأصنام . وقد باتت قضية العقيدة هي التي تشغل باله ، وتزحم عالمه . . صورة يزيدها التعبير شخوصا بقوله : ( فلما جن عليه الليل ) . . كأنما الليل يحتويه وحده ، وكأنما يعزله عن الناس حوله ، ليعيش مع نفسه وخواطره وتأملاته ، ومع همه الجديد الذي يشغل باله ويزحم خاطره :
( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ، قال : هذا ربي ) . .
وكان قومه يعبدون الكواكب والنجوم - كما أسلفنا - فلما أن يئس من أن يكون إلهة الحق - الذي يجده في فطرته في صورة غير مدركة ولا واعية - صنما من تلك الأصنام ، فلعله رجا أن يجده في شيء مما يتوجه إليه قومه بالعبادة !
وما كانت هذه أول مرة يعرف فيها إبراهيم أن قومه يتجهون بالعبادة إلى الكواكب والنجوم . وما كانت هذه أول مرة يرى فيها إبراهيم كوكبا . . ولكن الكوكب - الليلة - ينطق له بما لم ينطق من قبل ، ويوحي إلى خاطره بما يتفق مع الهم الذي يشغل باله ، ويزحم عليه عالمه :
فهو بنوره وبزوغه وارتفاعه أقرب - من الأصنام - إلى أن يكون ربا ! . . ولكن لا ! إنه يكذب ظنه : ( فلما أفل قال : لا أحب الآفلين ) . .
إنه يغيب . . يغيب عن هذه الخلائق . فمن ذا يرعاها إذن ومن ذا يدبر أمرها . . إذا كان الرب يغيب ؟ !
لا ، إنه ليس ربا ، فالرب لا يغيب !
إنه منطق الفطرة البديهي القريب . . لا يستشير القضايا المنطقية والفروض الجدلية ، إنما ينطلق مباشرة في يسر وجزم . لأن الكينونة البشرية كلها تنطق به في يقين عميق . .
فالصلة بين الفطرة وإلهها هي صلة الحب ؛ والآصرة هي آصرة القلب . . وفطرة إبراهيم " لا تحب " الآفلين ، ولا تتخذ منهم إلها . إن الإله الذي تحبه الفطرة . . لا يغيب . . !
وقوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي : تغشاه وستره { رَأَى كَوْكَبًا } أي : نجما ، { قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ } أي : غاب . قال محمد بن إسحاق بن يسار : " الأفول " الذهاب . وقال ابن جرير : يقال : أفل النجم يأفلُ ويأفِل أفولا وأفْلا إذا غاب ، ومنه قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي تَقُودُها{[10919]} *** نُجُومٌ ، ولا بالآفلات الدوالك{[10920]}
ويقال : أين أفلت عنا ؟ بمعنى : أين غبت عنا ؟
قال : { قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول ،
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هََذَا رَبّي فَلَمّآ أَفَلَ قَالَ لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : فلما واراه الليل وجَنّةُ ، يقال منه : جنّ عليه الليل ، وجنّه الليل ، وأجنّه ، وَأجَنّ عليه ، وإذا ألقيت «على » كان الكلام بالألف أفصح منه بغير الألف ، «أجنه الليل » أفصح من «أجن عليه » ، و «جنّ عليه الليل » أفصح من «جنّه » ، وكل ذلك مقبول مسموع من العرب . وجَنّه الليل في أسد وأجنّه وجنّه في تميم ، والمصدر من جنّ عليه جَنّا وجُنُونا وجَنَانا ، ومن أجنّ إجْنانا ، ويقال : أتى فلان في جِنّ الليل ، والجنّ من ذلك ، لأنهم استَجنّوا عن أعين بني آدم فلا يُرَوْن وكلّ ما توارى عن أبصار الناس فإن العرب تقول فيه : قد جَنّ ومنه قول الهُذليّ :
وَماءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى ***وَقَدْ جَنّهُ السّدَفُ الأدْهَمُ
وَخَرْقٍ تَصِيحُ البومُ فِيهِ معَ الصّدَىمَخُوفٍ إذا ما جَنّهُ اللّيْلُ مَرْهُوبِ
ومنه : أجننت الميت : إذا واريته في اللحد ، وجننته . وهو نظير جنون الليل في معنى : غطيته . ومنه قيل للترس : مِجَنّ ، لأنه يَجُنّ من استجنّ به فيغطيه ويواريه .
وقوله : رَأى كَوْكَبا يقول : أبصر كوكبا حين طلع قالَ هَذَا رَبي . فرُوي عن ابن عباس في ذلك ، ما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ يعني به : الشمس والقمر والنجوم . فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّيْلُ رَأى كَوْكَبا قالَ هَذَا رَبي فعبده حتى غاب ، فلما غاب قال : لا أحبّ الاَفلين فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب قال : لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالّين . فلما رأى الشمس بازغة قال : هذا ربي ، هذا أكبر فعبدها حتى غابت فلما غابت قال : يا قوم إني بريء مما تشركون .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَلَمّا جَنّ عَلَيْهِ اللّيْلُ رأى كَوْكَبا قالَ هَذَا رَبي فَلَمّا أفَلَ قالَ لا أُحِبّ الاَفِلِينَ علم أن ربه دائم لا يزول فقرأ حتى بلغ : هَذَا رَبي هَذَا أكْبَرُ رأى خلقا هو أكبر من الخلقين الأوّلين وأنور .
وكان سبب قيل إبراهيم ذلك ، ما :
حدثني به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، فيما ذكر لنا والله أعلم : أن آزر كان رجلاً من أهل كُوثَى من قرية بالسواد سوادِ الكوفة ، وكان إذ ذاك مُلْك المشرق لنمرود بن كنعان فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حُجّة على قومه ورسولاً إلى عباده ، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلاّ هود وصالح فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد ، أتى أصحابُ النجوم نمرود ، فقالوا له : تعلّمْ أنا نجد في عِلْمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم ، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود ، بعث نمرود إلى كلّ امرأة حبلى بقريته ، فحبسها عنده ، إلاّ ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر ، فإنه لم يعلم بحبلها ، وذلك أنها كانت امرأة حَدَثَة فيما يُذْكَر لم يعرف الحبل في بطنها . ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أراد أن يقتل كلّ غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة حذَرا على ملكه ، فجعل لا تلد امرأة غلاما في ذلك الشهر من تلك السنة إلاّ أمر به فذُبح فلما وَجَدت أمّ إبراهيم الطّلْق ، خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريبا منها ، فولدت فيها إبراهيم ، وأصلحت من شأنه ما يُصْنَع مع المولود ، ثم سدّت عليه المغارة ، ثم رجعت إلى بيتها . ثم كانت تطالعه في المغارة ، فتنظر ما فعل ، فتجده حيّا يمصّ إبهامه ، يزعمون والله أعلم أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصه . وكان آزر فيما يزعمون ، سأل أمّ إبراهيم عن حملها ما فعل ؟ فقالت : ولدت غلاما فمات . فصدّقها ، فسكت عنها . وكان اليوم فيما يذكرون على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة ، فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلاّ خمسة عشر شهرا ، حتى قال لأمه : أخرجيني أنظر فأخرجته عِشاء ، فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض ، وقال : إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ، ما لي إله غيره ثم نظر في السماء فرأى كوكبا ، قال : هذا ربي ثم أتبعه ينظر إليه ببصره ، حتى غاب ، فلما أفل : لا أحبّ الاَفلين ثم طلع القمر فرآه بازغا ، قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره حتى غاب ، فلما أفَلَ قال : لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القوم الضالين فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس ، أَعْظَمَ الشمس ، ورأى شيئا هو أعظم نورا من كلّ شيء رآه قبل ذلك ، فقال : هذا ربي ، هذا أكبر فلما أفلت قال : يا قوم إني برىء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين . ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرىء من دين قومه ، إلاّ أنه لم يبادئهم بذلك . وأخبر أنه ابنه ، وأخبرته أمّ إبراهيم أنه ابنه ، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه ، فسُرّ بذلك آزر وفرح فرحا شديدا . وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدونها ، ثم يعطيها إبراهيمَ يبيعها ، فيذهب بها إبراهيم فيما يذكرون ، فيقول : من يشتري ما يضرّه ولا ينفعه ؟ فلا يشتريها منه أحد ، وإذا بارت عليه ، وذهب بها إلى نهر فضرب فيه رءوسها ، وقال : اشربي استهزاءً بقومه وما هم عليه من الضلالة حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته ، من غير أن يكون ذلك بلغ نُمرود الملك .
وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي رُوي عن ابن عباس ، وعمن رُوِي عنه من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر : هذا ربي وقالوا : غير جائز أن يكون لله نبيّ ابتعثه بالرسالة أتى عليه وقت من الأوقات وهو بالغ إلاّ وهو لله موحد وبه عارف ومن كلّ ما يعبد من دونه برىء . قالوا : ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر لم يجز أن يختصه بالرسالة ، لأنه لا معنى فيه إلاّ وفي غيره من أهل الكفر به مثله ، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة فيحابيه باختصاصه بالكرامة . قالوا : وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه ، فأثابه لاستحقاقه الثواب بما أثابه من الكرامة . وزعموا أن خبر الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس : «هذا ربي » ، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربه وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه ، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام ، إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضوأَ وأحْسَنَ وأبهجَ من الأصنام ، ولم تكن مع ذلك معبودة ، وكانت آفلة زائلة غير دائمة ، والأصنام التي دونها في الحسن وأصغر منها في الجسم ، أحقّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة . قالوا : وإنما قال ذلك لهم معارضة ، كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضا له في قول باطل قال به بباطل من القول على وجه مطالبته إياه بالفرقان بين القولين الفاسدين عنده اللذين يصحح خصمه أحدهما ويدّعي فساد الاَخر . وقال آخرون منهم : بل ذلك كان منه في حال طفوليته وقبل قيام الحجة عليه ، وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان . وقال آخرون منهم : وإنما معنى الكلام : أهذا ربي على وجه الإنكار والتوبيخ أي ليس هذا ربي . وقالوا : قد تفعل العرب مثل ذلك ، فتحذف الألف التي تدلّ على معنى الاستفهام . وزعموا أن من ذلك قول الشاعر :
رفُونِي وقالُوا يا خُوَيلِدُ لا تُرَعْ ***فقلتُ وأنكرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يعني : «أهم هم » ؟ قالوا : ومن ذلك قول أوس :
لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وإنْ كُنْتَ دَارِيا ***شُعَيْثُ بنُ سَهْمٍ أمْ شُعَيْثُ ابنُ مِنْقَرِ
بمعنى : أشعيث بن سهم ؟ فحذف الأولف . ونظائر ذلك . وأما تذكير «هذا » في قوله : فَلَمّا رأى الشمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبي فإنما هو على معنى : هذا الشيء الطالع ربي .
وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر : لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبي لأَكُونَنّ مِنَ القَوْمِ الضّالّينَ الدليل على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم . وأن الصواب من القول في ذلك : الإقرار بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه والإعراض عما عداه .
وأما قوله فَلَمّا أفَلَ فإن معناه : فلما غاب وذهب . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال ابن إسحاق : الأفول : الذهاب ، يقال منه : أفَلَ النجم يأفُلُ ويأْفِلُ أُفُولاً وأَفْلاً : إذا غاب ومنه قول ذي الرّمة .
مصابيحُ لَيْسَتْ باللّوَاتِي يَقُودُها ***نُجُومٌ وَلا بالاَفلاتِ الدّوَالِكِ
هذه الفاء في قوله { فلما } رابطة جملة ما بعدها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية ، و «جن الليل » : ستر وغطى بظلامه ، ويقال الجن ، والأول أكثر ، ويشبه أن يكون الجن والمجن والجنة والجنن وهو القبر مشتقة من جن إذا ستر ، ولفظ هذه القصة يحتمل أن تكون وقعت له في حال صباه ، وقيل بلوغه كما ذهب إليه ابن عباس . فإنه قال : رأى كوكباً فعبده ، وقاله ناس كثير إن النازلة قبل البلوغ والتكليف ، ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفاً ، وحكى الطبري هذا عن فرقة وقالت إنه استفهم على جهة التوقيف بغير ألف ، قال وهذا كقول الشاعر : [ الطويل ]
رَفوني وقالوا يا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ . . . فَقَلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ{[4986]}
يريد أهم هم وكما قال الآخر : [ الطويل ]
لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وإنْ كُنْتُ دَارِياً . . . شَعِيثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شَعِيثُ بْنُ منْقرِ{[4987]} ؟
قال القاضي أبو محمد : والبيت الأول لا حجة فيه عندي ، وقد حكي أن نمرود جبار ذلك الزمن رأى منجموه أن مولوداً ولد في سنة كذا في عمله ، يكون خراب الملك على يديه ، فجعل يتبع الحبالى ويوكل بهن حراساً فمن وضعت أنثى تركت ومن وضعت ذكراً حمل إلى الملك فذبحه وأن أم إبراهيم حملت وكانت شابة قوية فسترت حملها فلما قربت ولادتها بعثت تارخ أبا إبراهيم إلى سفر وتحيلت لمضيه إليه ثم خرجت هي إلى غار فولدت فيه إبراهيم وتركته في الغار وقد هيأت عليه ، وكانت تفتقده فتجده يغتذي بأن يمص أصابعه فيخرج له منها عسل وسمن ونحوها ، وحكي : بل كان يغذيه ملك ، . وحكي : بل كانت تأتيه بألبان النساء اللاتي ذبح أبناؤهن ، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره ، والملك في خلال ذلك يحس بولادته ويشدد في طلبه فمكث في الغار عشرة أعوام وقيل خمس عشرة سنة ، وأنه نظر أول ما عقل من الغار فرأى الكوكب وجرت قصة الآية .
قال القاضي أبو محمد : وجلبت هذه القصص بغاية الاختصار في اللفظ وقصدت استيفاء المعاني التي تخص الآية ويضعف عندي أن تكون هذه القصة في الغار لقوله في آخرها { إني بريء مما تشركون }{[4988]} وهي ألفاظ تقتضي محاجة ورداً على قوم ، وحاله في الغار بعيدة عن مثل هذا ، اللهم إلا أن يتأول في ذلك أنه قالها بينه وبين نفسه ، أي قال في نفسه معنى العبارة عنه : { يا قوم إني بريء مما تشركون }وهذا كما قال الشاعر : [ الرجز ]
ثم انثنى وَقَالَ في التّفِكيرِ . . . إنَّ الحياةَ اليومَ في الكُرُورِ
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا فالمخاطبة تبعده ، ولو قال يا قوم إني بريء من الإشراك لصح هذا التأويل وقوي ، فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة وعدم التكليف على ما ذهب إليه بعض المفسرين ويحتمله اللفظ فذلك ينقسم على وجهين : إما أن يجعل قوله { هذا ربي } تصميماً واعتقاداً وهذا باطل لأن التصميم لم يقع من الأنبياء صلوات الله عليهم ، وإما أن يجعله تعريضاً للنظر والاستدلال كأنه قال هذا المنير البهي ربي إن عضدت ذلك الدلائل ويجيء إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالى لمحمد عليه السلام :{ ووجدك ضالاً فهدى }{[4989]} أي مهمل المعتقد ، وإن قلنا بأن القصة وقعت له في حال كفره وهو مكلف فلا يجوز أن يقول { هذا ربي } مصمماً ولا معرضاً للنظر ، لأنها رتبة جهل أو شك وهو عليه السلام منزه معصوم من ذلك كله ، فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم وإقامة الحجة عليهم في عبادة الأصنام ، كأنه قال لهم : أهذا المنير ربي ؟ أو هذا ربي وهو يريد على زعمكم ؟ كما قال الله تعالى : { أين شركائي }{[4990]} فإنما المعنى على زعمكم ، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركته وأفوله أمارة الحدوث ، وأنه لا يصلح أن يكون ربّاً ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك ثم في الشمس كذلك ، فكأنه يقول : فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة أنها لا تصلح للربوبية ، فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها ، ويعضد عندي هذا التأويل قوله : { إني بريء مما تشركون } [ الأنعام : 78 ] ومثل لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في الأفلاك ، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة والكوكب وهو الزهرة ، في قول قتادة وقال السدي وهو المشتري جانحاً للغروب ، فلما أفل بزغ القمر وهو أول طلوعه فسرى الليل أجمع فلما بزغت الشمس زال ضوء القمر قبلها لانتشار الصباح وخفي نوره ودنا أيضاً من مغربه فسمي ذلك أفولاً لقربه من الأفول التام على تجوز في التسمية ، ثم بزغت الشمس على ذلك ، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشرة من الشهر إلى ليلة عشرين ، وليس يترتب في ليلة واحدة كما أجمع أهل التفسير إلا في هذه الليالي ، وبذلك التجوز في أفول القمر ، و { أفل } في كلام العرب معناه غاب ، يقال : أين أفلت عنّا يا فلان ، وقيل معناه ذهب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خلاف في عبارة فقط ، وقال ذو الرمة : [ الطويل ]
مصابيحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُودُها . . . نُجُومٌ ولا بالآفِلاتِ الدّوالِكِ{[4991]}
وقال { الآفلين } فجمع بالياء والنون لما قصد الأرباب ونحو ذلك وعلى هذا يخرج قوله في الشمس { هذا ربي } فذكر الإشارة إليها لما قصد ربه وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص : «رَأَى » بفتح الراء والهمزة ، وقرأ نافع بين الفتح والكسر ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء ، بفتح الراء وكسر الهمزة .
{ فلمَّا جنّ } تفريع على قوله : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] بقرينة قوله : { رأى كوكباً } فإنّ الكوكب من ملكوت السماوات ، وقولِه في المعطوف عليه { نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] . فهذه الرؤية الخاصّة التي اهتدى بها إلى طريق عجيب فيه إبكات لقومه مُلجىء إيّاهم للاعتراف بفساد معتقدهم ، هي فرع من تلك الإراءة التي عمَّت ملكوت السماوات والأرض ، لأنّ العطف بالفاء يستدعي مزيد الاتِّصال بين المعطوف والمعطوف عليه لما في معنى الفاء من التفريع والتسبّب ، ولذلك نعُدّ جعل الزمخشري { فلما جنّ } عطفاً على { قال إبراهيم لأبيه } [ الأنعام : 74 ] ، وجعْله ما بينهما اعتراضاً ، غيرَ رشيق .
وقوله : { جَنّ عليه الليل } أي أظلم الليل إظلاماً على إبراهيم ، أي كان إبراهيم محوطاً بظلمة الليل ، وهو يقتضي أنَّه كان تحت السَّماء ولم يكن في بيت .
ويؤخذ من قوله بعده { قال يا قوم إنِّي بريء مِمَّا تشركون } أنَّه كان سائراً مع فريق من قومه يشاهدون الكواكب ، وقد كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصوّرون لها أصناماً . وتلك ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم .
يقال : جَنَّة الليل ، أي أخفاه ، وجَنان الليل بفتح الجيم ، وجنُّه : ستره الأشياء المرئية بظلامه الشديد . يقال : جنَّة الليل ، وهو الأصل . ويقال : جَنّ عليه الليل ، وهذا يقصد به المبالغة في الستر بالظلمة حتَّى صارت كأنَّها غطاء ، ومع ذلك لم يسمع في كلامهم جنّ اللَّيل قاصراً بمعنى أظلم .
وظاهر قوله : { رأى كوكباً } أنَّه حصلت له رؤية الكواكب عَرَضاً من غير قصد للتأمّل وإلاّ فإنّ الأفق في الليل مملوء كواكبَ ، وأنّ الكواكب كان حين رآه واضحاً في السماء مشرقاً بنوره ، وذلك أنور ما يكون في وسط السماء . فالظاهر أنَّه رأى كوكباً من بينها شديد الضوء . فعن زيد بن علي أنّ الكوكب هو الزهرة . وعن السدّي أنَّه المشتري . ويجوز أن يكون نَظَر الكواكب فرأى كوكباً فيكون في الكلام إيجاز حذف مثل { أننِ اضربْ بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] ، أي فضرب فانفلق . وجملة { رأى كوكباً } جواب { لمَّا } . والكوكب : النجم .
وجملة : { قال هذا ربِّي } مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ينشأ عن مضمون جملة { رأى كوكباً } وهو أن يسأل سائل : فماذا كان عندما رآه ، فيكون قوله : { قال هذا ربِّي } جوباً لذلك .
واسم الإشارة هنا لقصد تمييز الكوكب من بين الكواكب ولكنْ إجراؤه على نظيريه في قوله حين رأى القمر وحين رأى الشمس { هذا ربِّي هذا ربِّي } يعيّن أنّ يكون القصد الأصلي منه هو الكناية بالإشارة عن كون المشار إليه أمراً مطلوباً مبحوثاً عنه فإذا عُثر عليه أشير إليه ، وذلك كالإشارة في قوله تعالى : { لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث } [ الروم : 56 ] ، وقوله : { قالت فذلكنّ الذي لمتنّني فيه }
[ يوسف : 32 ] ولم يقل فهو الذي لمتنني . ولعلّ منه قوله : { هذه بضاعتُنا رُدّت إلينا } [ يوسف : 65 ] إذ لم يقتصروا على « بضاعتُنا ردّت إلينا » . وفي « صحيح البخاري » قال الأحنف بن قيس : « ذَهَبْتُ لأنْصُر هذا الرجل » ( يعني عليّ بن أبي طالب ) ولم يتقدّم له ذكر ، لأنّ عليّاً وشأنه هو الجاري في خواطر الناس أيام صفّين ، وسيأتي قوله تعالى : { فإن يكفر بها هؤلاء } [ الأنعام : 89 ] يعني كفَّار قريش ، وفي حديث سؤال القبر : " فيقال له ما علمك بهذا الرجل " ( يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الأغراض الداعية للتعريف باسم الإشارة التي أهملها علماء البلاغة فيصحّ هنا أن يجعل مستعملاً في معنييه الصريح والكناية .
وتعريف الجزأين مفيد للقصر لأنَّه لم يقل : هذا ربّ . فدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام أراد استدراج قومه فابتدأ بإظهار أنَّه لا يَرى تعدّد الآلهة ليصل بهم إلى التوحد واستبقى واحداً من معبوداتهم ففرض استحقاقه الإلهية كيلا ينفروا من الإصغاء إلى استدلاله .
وظاهر قوله { قال } إنَّه خاطب بذلك غيره ، لأنّ القول حقيقته الكلام ، وإنَّما يساق الكلام إلى مخاطب . ولذلك كانت حقيقة القول هي ظاهر الآية من لفظها ومن ترتيب نظمها إذْ رُتِّب قوله { فلما جنّ } على قوله : { وكذلك نري إبْراهيم ملكوت السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] وقوله : { وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] ورتّب ذلك كلّه على قوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتَّخذ أصناماً آلهة } [ الأنعام : 74 ] الآية ، ولقوله تعالى : { قال هذا ربِّي } وإنَّما يقوله لمخاطب ، ولقوله عقب ذلك { يا قوم إنِّي بريء ممَّا تشركون } ، ولأنَّه اقتصر على إبطال كون الكواكب آلهة واستدلّ به على براءته ممَّا يشركون مع أنَّه لا يلزم من بطلان إلهية الكواكب بطلان إلهية أجرام أخرى لولا أنّ ذلك هو مدّعى قومه ؛ فدلّ ذلك كلّه على أنّ إبراهيم عليه السلام قال ذلك على سبيل المجادلة لقومه وإرخاء العنان لهم ليصلوا إلى تلقّي الحجّة ولا ينفِروا من أول وهلة فيكون قد جمع جمعاً من قومه وأراد الاستدلال عليهم .
وقوله : { هذا ربِّي } أي خالقي ومدبِّري فهو مستحقّ عبادتي . قاله على سبيل الفرض جرياً على معتقد قومه ليصل بهم إلى نقض اعتقادهم فأظهر أنَّه موافق لهم ليهشّوا إلى ذلك ثم يكُرّ عليهم بالإبطال إظهاراً للإنصاف وطلب الحقّ . ولا يريبك في هذا أنّ صدور ما ظاهره كُفر على لسانه عليه السلام لأنَّه لمّا رأى أنّه ذلك طريق إلى إرشاد قومه وإنقاذهم من الكفر ، واجتهد فرآه أرجى للقبول عندهم ساغ له التصريح به لقصد الوصول إلى الحقّ وهو لا يعتقده ، ولا يزيد قولُه هذا قومَه كفراً ، كالذي يُكره على أن يقول كلمة الكفر وقلبُه مطمئنّ بالإيمان فإنَّه إذا جاز ذلك لحفظ نفس واحدة وإنقاذها من الهلاك كان جوازه لإنقاذ فريق من النَّاس من الهلاك في الدنيا والآخرة أولى .
وقد يكون فعل ذلك بإذن من الله تعالى بالوحي .
وعلى هذا فالآية تقتضي أنّ قومه يعبدون الكواكب وأنَّهم على دين الصابئة وقد كان ذلك الدين شائعاً في بلدان الكلدان التي نشأ فيها إبراهيم عليه السلام وأنّ الأصنام التي كانوا يعبدونها أرادوا بها أنّها صور للكواكب وتماثيلُ لها على حسب تخيّلاتهم وأساطيرهم مثلما كان عليه اليونان القدماء ، ويحتمل أنَّهم عبدوا الكواكب وعبدوا صوراً أخرى على أنَّها دون الكواكب كما كان اليونان يقسمون المعبودات إلى آلهة وأنصاف آلهة . على أنّ الصابئة يعتقدون أنّ للكواكب روحانيات تخدمها .
وأفل النجم أفولاً : غاب ، والأفول خاصّ بغياب النيِّرات السماوية ، يقال : أفلّ النجم وأفَلَتْ الشمس ، وهو المغيب الذي يكون بغروب الكوكب ورَاء الأفق بسبب الدورة اليومية للكرة الأرضية ، فلا يقال : أفَلَتْ الشمس أو أفَل النجم إذا احتجب بسحاب .
وقوله : { لا أحبّ } الحبّ فيه بمعنى الرضى والإرادة ، أي لا أرضى بالآفِل إلهاً ، أو لا أريد الآفل إلَهاً . وقد علم أنّ متعلَّق المحبَّة هو إرادته إلَهاً له بقوله : { هذا ربِّي } . وإطلاق المحبَّة على الإرادة شائع في الكلام ، كقوله تعالى : { فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا } [ التوبة : 108 ] . وقدّره في « الكشَّاف » بحذف مضاف ، أي لا أحبّ عبادة الآفلين .
وجاء ب { الآفلين } بصيغة جمع الذكور العقلاء المختصّ بالعقلاء بناء على اعتقاد قومه أنّ الكواكب عاقلة متصرّفة في الأكوان ، ولا يكون الموجود معبوداً إلاّ وهو عالم .
ووجه الاستدلال بالأفوال على عدم استحقاق الإلهية أنّ الأفول مغيب وابتعاد عن الناس ، وشأن الإله أن يكون دائم المراقبة لتدبير عباده فلمَّا أفلّ النجم كان في حالة أفوله محجوباً عن الاطِّلاع على النَّاس ، وقد بنَى هذا الاستدلال على ما هو شائع عند القوم من كون أفول النجم مغيباً عن هذا العالم ، يعني أنّ ما يغيب لا يستحقّ أنْ يُتَّخذ إلهاً لأنَّه لا يغني عن عباده فيما يحتاجونه حين مغيبه . وليس الاستدلال منظوراً فيه إلى التغيّر لأنّ قومه لم يكونوا يعلمون الملازمة بين التغيّر وانتفاء صفة الإلهية ، ولأنّ الأفول ليس بتغيّر في ذات الكوكب بل هو عَرَض للأبصار المشاهِدة له ، أمَّا الكوكب فهو باق في فلكه ونظامه يغيب ويعود إلى الظهور وقوم إبراهيم يعلمون ذلك فلا يكون ذلك مقنعاً لهم .
ولأجل هذا احتجّ بحالة الأفول دون حالة البزوغ فإنّ البزوغ وإن كان طرأ بعد أفول لكنْ الأفول السابقُ غيرُ مشاهد لهم فكان الأفول أخصر في الاحتجاج من أن يقول : إنّ هذا البازغ كان من قَبلُ آفِلاً .