قوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحاً } ، أي بطراً وكبراً وخيلاء ، وهو تفسير المشي ، فلذلك أخرجه على المصدر ، { إنك لن تخرق الأرض } أي : لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ آخرها ، { ولن تبلغ الجبال طولاً } أي : لا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك . معناه : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً ، كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء . وقيل : ذكر ذلك لأن من مشى مختالاً يمشي مرة على عقبيه ومرة على صدور قدميه ، فقيل له : إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ، ولن تبلغ الجبال طولاً إن مشيت على صدور قدميك .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا أبي ، عن المسعودي ، عن عثمان بن مسلم بن هرمز ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن علي قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى يتكفأ تكفؤاً ، كأنما ينحط من صبب " .
أخبرنا أبو محمد الجرجاني ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة بن سعد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له ، إنا لنجهد أنفسنا ، وإنه لغير مكترث " .
وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة :
( ولا تمش في الأرض مرحا . إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) . .
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان ، أو قوة أو جمال . لو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله ، وأنه ضعيف أمام حول الله ، لطامن من كبريائه ، وخفف من خيلائه ، ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا .
والقرآن يحبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته : ( إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل ، لا يبلغ شيئا من الأجسام الضخمة التي خلقها الله . إنما هو قوي بقوة الله ، عزيز بعزة الله ، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه ، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه .
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء ، أدب مع الله ، وأدب مع الناس . أدب نفسي وأدب اجتماعي . وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات . يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته ، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه .
وفي الحديث : من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير . ومن استكبر وضعه الله ، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير . حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلّ ذَلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهاً } .
يقول تعالى ذكره : ولا تمش في الأرض مختالاً مستكبرا إنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ يقول : إنك لن تقطع الأرض باختيالك ، كما قال رُؤْبة :
*** وقاتِمِ الأعماقِ خاوِي المُخْتَرَق ***
يعني بالمخترق : المقطع وَلَنْ تَبلُغَ الجِبالَ طُولاً بفخرك وكبرك ، وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء ، وتقدم منه إليهم فيه معرّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا إنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبالِ طُولاً يعني بكبرك ومرحك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحا قال : لا تمش في الأرض فخرا وكبرا ، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ قال : لا تفخر .
وقيل : لا تمش مرَحا ، ولم يقل مرِحا ، لأنه لم يرد بالكلام : لا تكن مرِحا ، فيجعله من نعت الماشي ، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحا ، ففسر المعنى المراد من قوله : ولا تمش ، كما قال الراجز :
يُعْجِبُهُ السّخُونُ والعَصِيدُ *** والتّمْرُ حَبّا ما لَهُ مَزيدُ
فقال : حبا ، لأن في قوله : يعجبه ، معنى يحبّ ، فأخرج قوله : حبا ، من معناه دون لفظه .
نهي عن خصلة من خصال الجاهلية ، وهي خصلة الكبرياء ، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها . وهذه الوصية الخامسة عشرة .
والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب ، وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لا يناسب ما بَعده .
والمَرح بفتح الميم وفتح الراء : شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق . و { مرحاً } مصدر وقع حالاً من ضمير { تمش } . ومجيء المصدر حالاً كمجيئه صفة يرد منه المبالغة في الاتصاف . وتأويله باسم الفاعل ، أي لا تمش مارحاً ، أي مشية المارح ، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختُر . ويجوز أن يكون { مرحاً } مفعولاً مطلقاً مبيناً لفعل { تمش } لأن للمشي أنواعاً ، منها : ما يدلّ على أن صاحبه ذو مَرح . فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي . والمشي مرحاً أن يكون في المشي شدة وطْء على الأرض وتطاول في بَدن الماشي .
وجملة { إنك لن تخرق الأرض } استئناف ناشىء عن النهي بتوجيه خطاب ثاننٍ في هذا المعنى على سبيل التهكم ، أي أنك أيها الماشي مرَحاً لا تخرق بمشيك أديم الأرض ، ولا تبلغ بتطاولك في مشيك طول الجبال ، فماذا يغريك بهذه المِشية .
والخَرْق : قطع الشيء والفصل بين الأديم ، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب . والكلام مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطىء الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال .
والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل . فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بإظهار الشفوف عليهم وإرهابهم بقوته . وعن عمر بن الخطاب : أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له : « إن البخترة مشية تُكره إلا في سبيل الله » يعني لأنها يرهب بها العَدو إظهاراً للقوة على أعداء الدين في الجهاد .
وإظهار اسم ( الأرض ) في قوله : { لن تخرق الأرض } دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلاً عن غيره جارياً مجرى المثل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.