{ وثيابك فطهر } قال قتادة ومجاهد : نفسك فطهر من الذنب ، فكنى عن النفس بالثوب ، وهو قول إبراهيم والضحاك والشعبي والزهري . وقال عكرمة : سئل ابن عباس عن قوله : { وثيابك فطهر } فقال : لا تلبسها على معصية ولا على غدر ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر*** لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء : إنه طاهر الثياب ، وتقول لمن غدر : إنه لدنس الثياب . وقال أبي بن كعب : لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا إثم ، البسها وأنت بر طاهر .
وروى أبو روق عن الضحاك معناه : وعملك فأصلح . قال السدي : يقال للرجل إذا كان صالحاً : إنه لطاهر الثياب ، وإذا كان فاجراً إنه لخبيث الثياب . وقال سعيد بن جبير : وقلبك ونيتك فطهر . وقال الحسن والقرظي : وخلقك فحسن . وقال ابن سيرين وابن زيد : أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها ، وذلك أن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم . وقال طاوس : وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها .
ويوجهه إلى التطهر : ( وثيابك فطهر ) . . وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخلق والعمل . . طهارة الذات التي تحتويها الثياب ، وكل ما يلم بها أو يمسها . . والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى . كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة . وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذاروالتبليغ ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب ؛ وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب ، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث ، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس . . وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتى الأوساط ، وشتى البيئات ، وشتى الظروف ، وشتى القلوب !
وقوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لا تلبس ثيابك على معصية ، ولا على غدرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : أما سمعت قول غَيلان بن سَلَمة :
وإنّى بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مُصْعَب بن سلام ، عن الأجلح ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : أتاه رجل وأنا جالس فقال : أرأيت قول الله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تلبسها على معصية ولا على غدرة ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفيّ :
وإنّى بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأجلح ، عن عكرِمة ، قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تلبسها على غدرة ، ولا على فجرة ، ثم تمثّل بشعر غيلان بن سلمة هذا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن عكرِمة وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تلبس ثيابك على معصية ، ألم تسمع قول غيلان بن سَلَمَةَ الثقفّي :
وإنّى بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال ابن جريج ، أخبرني عطاء ، أنه سمع ابن عباس يقول : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم ، ثم قال : نقيّ الثياب في كلام العرب .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا حفص بن غياث القاضي ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قوله وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : في كلام العرب : نقيّ الثياب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الذنوب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الذنوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : هي كلمة من العربية كانت العرب تقولها : طهر ثيابك : أي من الذنوب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ يقول : طهّرها من المعاصي ، فكانت العرب تسمى الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دَنِس الثياب ، وإذا وفى وأصلح قالوا : مطهّر الثياب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ يقول : لا تلبس ثيابك على معصية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جُريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من الإثم .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأجلح ، سمع عكرمة قال : لا تلبس ثيابك على معصية .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر وعطاء قالا : من الخطايا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تلبس ثيابك من مكسب غير طيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب ، ويقال : لا تلبس ثيابك على معصية .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أصلح عملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : عملك فأصلح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رَزِين في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : عملك فأصلحه ، وكان الرجل إذا كان خبيث العمل ، قالوا : فلان خبيث الثياب ، وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لست بكاهن ولا ساحر ، فأعرض عما قالوا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : اغسلها بالماء ، وطهرها من النجاسة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر ، عن أحمد بن موسى بن أبي مريم صاحب اللؤلؤ ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : اغسلها بالماء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره أن يتطهر ، ويطهّر ثيابه .
وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه ، والذي قاله ابن عباس وعكرِمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف من أنه عُنِيَ به : جسمك فطهر من الذنوب ، والله أعلم بمراده من ذلك .
واختلف المتأولون في معنى قوله { وثيابك فطهر } ، فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة : هو أمر بتطهير الثياب حقيقة ، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب ، وقال الجمهور : هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض ، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب ، ويقال للفاجر دنس الثوب ، ومنه قول الشاعر [ غيلان بن سلمة الثقفي ] : [ الطويل ]
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر*** لبست ولا من خزية أتقنع{[11410]}
لاهم إن عامر ابن جهم*** أوذم حجّاً في ثياب دسم{[11411]}
أي دنسه . وقال ابن عباس والضحاك وغيره ، المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور ، وقال ابن عباس : المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث ، وقال النخعي : المعنى طهرها من الذنوب ، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض ، وقال طاوس : المعنى قصرها وشمرها ، فذلك طهرة للثياب .
هو في النظم مثل نظم { وربّك فكبر } [ المدثر : 3 ] أي لا تترك تطهير ثيابك .
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس ، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها ، كقول عنترة :
فشكَكْت بالرمح الأصم ثيابه *** كناية عن طعنه بالرمح .
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] .
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك . وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي « إِن الله نظيف يحب النظافة » . وقال : هو غريب .
ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على { وربَّك فكبر } لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة .
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه .
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه . وفي كلام العرب : فلان نقي الثياب . وقال غيلان بن سلمة الثقفي :
وإِنِّي بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنّع
وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرىء القيس :
ثيابُ عوف طَهارَى نقية *** وأوْجُهُهُمْ بيضُ المَسَافِرِ غُرَّان
ودخول الفاء على فعل { فطهر } كما تقدم عند قوله : { وربّك فكبّر } [ المدثر : 3 ] .
وتقديم { ثيابك } على فعل ( طهِّرْ ) للاهتمام به في الأمر بالتطهير .